كيرلس عبد الملاك
مثلما تعرض السيد المسيح لإهدار حقوقه على أرض موطنه، في أورشليم، المسماة بالعربية القدس، حتى عُذب وذُبح على الصليب قبل أن يقوم من الموت بقوة لاهوته، حسبما يؤمن المسيحيون، تعرّض الأقباط أيضا لإهدار حقوقهم في نفس البلد وعلى نفس الأرض، فمن جانب رفضت السلطة الإسرائيلية تسليمهم دير السلطان، الدير الذي طالما ورثوه عن أسلافهم منذ قرون عديدة، ومن جانب آخر تم التعدي أمس على الرهبان الأقباط المشاركين في وقفة احتجاجية أمام الدير ومنهم راهب سُحل واعتُقل بشكل مهين فقط لأنه يقف صامتا محتجا على اقتحام دير تمتلكه كنيسته بموجب وثائق تاريخية وقانونية لا يختلف عليها اثنان.
العجيب في الأمر أن المحكمة الإسرائيلية العليا أقرت في حكمها الصادر عام 1971 بامتلاك الكنيسة القبطية لدير السلطان نظرا لما أظهرته من وثائق تاريخية تؤكد هذه الملكية عبر العصور منذ القرن السابع الميلادي تحديدا منذ عهد عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي.
ما يمكن استنتاجه بحسب قراءتي للمسار التاريخي، أن الكنيسة القبطية تمتلك الدير المسمى “دير السلطان” منذ القرون الأولى للمسيحية قبل ظهور الإسلام باعتبارها التجمع المسيحي الأقرب للقدس عن غيرها من التجمعات المسيحية غير يهودية الأصل، وإن كانت قد امتلكت وثائق تؤكد الملكية لذلك الدير في قرون لاحقة، فليس من المستبعد أن تكون وثائق الملكية القديمة السابقة على العصر العربي في مصر قد تعرضت للتلف أو الضياع، لأن عبد الملك بن مروان لم يكن ذلك الخليفة العادل المعطاء بل كان كغيره من الخلفاء المسلمين كارها للأقباط مضيّقا عليهم ولم يكن من شيمه أن يمنحهم ما ليس لهم على سبيل الهدية.
إذن لماذا تصر السلطة الإسرائيلية على إهدار حق الأقباط في امتلاك دير السلطان بتسليمه للرهبان الأحباش؟
في البداية لابد أن نوضح أن الرهبان الأحباش أو الإثيوبيين متحدين في العقيدة مع الكنيسة القبطية، بل إن الكنيسة القبطية هي التي أسست الكنيسة الإثيوبية في القرن الرابع الميلادي من خلال سيامة أول أسقف لها على يد البابا أثناسيوس القبطي، وظلت الكنيسة الإثيوبية خاضعة لشقيقتها القبطية إلى عام 1959 حيث انفصلت بالتوافق معها ونالت الاستقلال البطريركي دون أن تختلف عنها في العقيدة.
الأزمة بدأت في الظهور بين مطرانية الكنيسة القبطية في القدس والرهبان الإثيوبيين الساكنين في دير السلطان الكائن هناك بعد موقف الكنيسة القبطية من نكسة 1967 المتمثل في دعم أنبا باسيليوس مطران القدس وتأييده لمصر في حربها ضد إسرائيل، وكانت النتيجة أن السلطة الإسرائيلية اغتصبت الدير وسلمته للرهبان الإثيوبيين الذين كانوا ضيوفا عند الأقباط وتحولوا بإرادة هذه السلطة الغاشمة إلى مالكين وهذا ما ذكرته الكنيسة القبطية في مجلة الكرازة التابعة لها في عام 1981.
بعكس ما يظهر من هذه الأزمة فإن السلطة الإسرائيلية لا تدلل الرهبان الإثيوبيين بل تعاملهم بخشونة وعنف وهذا ما ظهر جليا في تعدي بعض رجال الأمن الإسرائيلي على بعض الرهبان الإثيوبيين في يونيو من العام الجاري.
يبدو لي أن السلطة الإسرائيلية تستخدم هؤلاء الرهبان المساكين في لعبة سياسية تستهدف بها تقليل الوجود القبطي في مدينة القدس، لما للأقباط من مواقف مضادة لمصالح السلطة الإسرائيلية عبر التاريخ، وستنحصر أرباح الرهبان الإثيوبيين في هذه اللعبة في تواجد مهدّد داخل دير السلطان لا تدعمه وثائق ولا أحكام قضائية ليسهل على السلطة الإسرائيلية أن تطردهم منه فيما بعد.
كان موقف أنبا أنطونيوس مطران القدس موقفا مسؤولا وشهما بوقوفه إلى جوار الرهبان الأقباط أمام دير السلطان أمس احتجاجا على اقتحام السلطة الإسرائيلية للدير دون الرجوع إلى مالكيه الأصليين، فيندر أن يشترك أحد كبار رجال الدين في وقفة احتجاجية مع رهبان وشمامسة أقل منه في الرتبة الكهنوتية، لكن يؤسفني القول إن هذا الموقف لا يكفي، طالما لم يتبعه تدخل سياسي مصري أو تصعيد دولي من شأنه أن يحرك المياة الراكدة منذ سنين لحل هذه الأزمة.
من الجيد أيضا أن يصدر استنكارا من وزارة الخارجية المصرية اعتراضا على ما حدث من تعدي على الرهبان واقتحام الدير القبطي من السلطة الإسرائيلية دون حق لكن هذا الاستنكار لا يكفي أيضا فهو لا يتعدى الكلمات التي لا تؤثر على أرض الواقع ما لم يتبعها أفعال مسؤولة، فهناك طريقين لا ثالث لهما، إما أن تنتهج مصر تصعيدا سياسيا ينتهي بحل الأزمة باعتبار الأقباط مواطنين مصريين لهم الحق في تدخل الدولة المصرية لتوفير حقوقهم في الدول الأخرى، أو أن ينتهج الأقباط تصعيدا قانونيا دوليا لفض النزاع بين الأقباط والإثيوبيين بخصوص دير السلطان من خلال تفعيل القانون الدولي، ما لم يوجد طريقا وديا يُرجع الحق لأصحابه ويطمئن الضيوف على استمرار ضيافتهم دون تهديد بالرحيل.