أقلام مختارة

شيء هائل تغير

حازم الأمين

حازم الأمين

لم تكن المملكة العربية السعودية ضعيفة في يوم من الأيام على قدر ما هي ضعيفة اليوم. سريعا ما نقلت جريمة إسطنبول المملكة إلى موقع من الصعب تصريفه في صورتها التقليدية، وفي شبكة نفوذها وعلاقاتها. وهذا يطرح على المراقب تساؤلات من الصعب البحث عن أجوبة لها، إلا أنها تأخذه من دون شك إلى اقتناع مفاده أن ثمة شيء كبير سيتغير. ما هو هذا الشيء، وما هو شكل التغيير. سؤالان يجب عدم المغامرة في توقعهما.

فأن يواجه حلفاء في الشرق والغرب هذا القدر من الصعوبات في مساعيهم لضبط الحملة على الرياض، فإن لهذه الحقيقة أثمانا لا يبدو أن صفقات الأسلحة وموقع السعودية الاقتصادي وأهمية استقرارها كافية لتأمينها، والدليل على ذلك هو المواقف المتقلبة والمتبدلة للرئيس الأميركي دونالد ترامب حيال جريمة إسطنبول. فهو أعلن بصراحة أنه لن يقايض 110 مليار دولار، هي ثمن صفقات موقعة مع السعودية، بقضية جمال خاشقجي. ومن الواضح أن هذا الرقم لم يشكل إغراء للرأي العام الأميركي على رغم أنه أرفقه بمعلومة تقول إن العلاقات مع الرياض توفر نحو 500 ألف فرصة عمل للأميركيين، ذاك أن ترامب عاد وقال إن أسوأ سيناريو هو ذلك الذي قدمته الرياض لوقائع الجريمة. وهو قال ذلك تحت تأثير الضغط الشديد من أعضاء الكونغرس ومن الصحافة الأميركية.

السعودية نفسها تشعر أن الأرض تميد تحتها. وزير النفط السعودي خالد الفالح قال في افتتاح مؤتمر دافوس في الصحراء “إن السعودية تمر بأوضاع عصيبة”، وحتى الآن لا يبدو أن هناك رغبة إمكانية لتعامل مختلف مع هذه “الأيام العصيبة”. علما أن المؤتمر نفسه شهد انتكاسة كبرى في أعقاب القتل المعلن والمصور لجمال خاشقجي.

من الواضح أن ما أحدثته الجريمة سينعكس على موقع المملكة على مختلف المستويات. المؤشرات الأولى بدأت تلوح. تبريد الجبهة في اليمن أمر لاحظه كثير من اليمنيين. التوتر مع قطر مختصر اليوم بتوتر مع محطة الجزيرة، ورجب طيب أردوغان صار جزءا من اللغة “الهادئة” للسياسة الخارجية السعودية. مؤشرات أخرى ذكرها كتاب سعوديون غير معارضين إلى احتمال هدنة مع إيران وعلاقة مختلفة مع حلفاء سابقين للمملكة كانت العلاقات معهم قد شهدت فتورا وتوترا مثل لبنان والعراق.

والغريب أن مؤشرات تبدل الموقع بدأت تلوح سريعا، والأرجح أن مرد ذلك، وكذلك مرد غرابته، يعود إلى أن ما جرى في إسطنبول كان أيضا مشهدا خاطفا وغير مؤسس على سابقة. فكاميرات التصوير وتسريبات أنقرة نقلت إلينا أكثر من ثمانين في المئة من وقائع الجريمة، وهذه الأخيرة مكتملة العناصر اليوم كواقعة جنائية، ولم يبق إلا جثة الرجل خارج التناول.

اليوم يقتصر النقاش على من أعطى الأمر. هذا الواقع يفرض تسريع الخطوات نحو اختيار موقع يتيح تصريف مشهد على هذا القدر من الوضوح. والموقع الذي اختاره ولي العهد محمد بن سلمان للمملكة في السنوات الثلاث المنصرمة لجهة تزخيم الجبهات في الداخل والخارج لم يعد ممكنا المضي فيه، لا سيما وأن الاعلام الغربي وبرلمانات الدول الحليفة تحاصر الرجل باتهامات لم يجب عنها حتى الآن بأنه هو من أعطى الأمر بتنفيذ العملية.

السياسة لم تكن يوما بالنسبة إلينا وقائعية إلى هذا الحد. لا أفكار ولا مواقف ولا تفسيرات في هذا الانتظار. ثمة جريمة. الكل اعترف بحصولها. وجه القتيل اختفى، ولا جثة حتى الآن متاحة لنعرف ماذا جرى. انتظار الجثة، وهو الحلقة الأخيرة من حلقات الكشف عن مقتل جمال خاشقجي، يبدو أنه بوليسي وليس سياسيا، ولم نعهده في تصريفنا للوقائع السائرة بين الدول.

هذا ما يجعل التوقع مستحيلا. فالسعودية التي بنت حضورها وموقعها على نحو بطيء وغير مشوق من العلاقات مطلوب منها اليوم خطوات لم يسبق أن اختبرت مثلها. هذا كل ما يمكن أن يكتفي به المرء من توقعات. والقول بأن العودة إلى مرحلة ما قبل بن سلمان قد تكون مخرجا، فيها من عدم الواقعية ما يكفي لتفاديها.

جميع المهتمين بالسعودية والمتابعين لوقائعها حائرون بمشهد الرياض اليوم. فهذا المشهد تزدحم وتتصارع فيه حسابات العالم كله، بقيمه ومصالحه، وأي ادعاء بالمعرفة سيصطدم بما لا يحصى من العناصر التي تضعفه وتنفيه. لكن الأكيد أن ثمة شيء هائل تغير. علينا أن ننتظر وأن لا نسقط في فخ التوقع. والأكيد أنه علينا أن ننتظر جثة زميلنا لكي ندفنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق