وليد العمري
كان افضل من كتابة هذه السطور لو غنى لنا شعبان عبد الرحيم عن جمال الديمقراطية و مناقب الديمقراطيين دون تكلف البحث عن لحن جديد، ذلك ان الحان الديموقراطية، والرقص الديموقراطي حينها سيكون على غرار العادة، لا جديد فيهما يذكر، بل كله قديم يجتر ويستعاد، لكننا مع ذلك نحتاج الى شعبان عبد الرحيم اكثر من حاجتنا الى مرتزقة الديموقراطية وحرفييها، واحيانا اخرى نحتاج اغنية غربية مثل تلك التي كتبها جيم ستاينمان و تقول الحياة ليمونة، ردوا الي فلوسي، لماذا الحياة ليمونة، لأن صفرة لونها يسر العين يغري بأكلها، حتى اذا فعل الواحد ذلك انقلب على عقبيه يقطر خيبة مما جنى عليه الطمع، لكن الديمقراطية ايضا ليمونة ، وأحزابها وتنظماتها لا تختلف عن حوانيت بيع الليموناضة، لكنهم لا يبيعون لك الليمون الا بعد تزويره وتدليسه والتخفيف من حدته بالسكر والماء، يشتكي السياسيون في الدول الديمقراطية من عدم التسيس والانهمام بالشأن العام على حساب الشأن الخاص بمعنى التذمر من فقدان السوق السياسية لجاذبيتها، اذ ان توسع السوق السياسية يعني ازدهار بضاعتهم، ورواج القيمة التي يطرحونها للبيع في هذه السوق المفتوحة والشفافة.
ومن النوافل الاشارة الى انفتاح هذه السوق، في تونس ومصر مثلا، حتى على الموتى الذين لازال بعضهم يؤدي واجبه في الاقتراع.
يتم الترويج للديمقراطية بكافة نكهاتها على انها تعني ببساطة ساذجة الاحتكام الى الشعب من اجل مصلحة الشعب، سواءا كانت الديمقراطية مباشرة، تمثيلية، او تشاركية، فهذا لا يخل بالتعريف المورد اعلاه، فالديمقراطية هي هي، واحدة بالمعنى وان تعددت بالعبارة.
ولسنا في موضع يجيز لنا التطرق الى تعاريف الشعب و مصلحة الشعب تلافيا لما لا يحتمله النص من حشو، و لكن سنقول بما يسعنا من بداهة بأن الديموقراطية تحتاج الى شعب يختار الى من يوكل السلطة، وقد تترادف السلطة في اللسان المتداول مع الحكومة، اي النخب التي تتورك على بردعة الدولة بما هي حقل الوظيفة العمومية مما يعني اننا نصببح وبشكل اكثر دقة ازاء حكم نخب اختارها الشعب من اجل تدبير مصالحه، فالشعب في النهاية هو الذي يسند الصلاحيات المخولة للحكم، اذ لا فرق بين ديموقراطية النخب و اوليغارشية النخب، فكلها تقنيات تدبير المصلحة العامة بتفويض انتخابي بعد اخضاعها للنقاش، هذا التعريف واه حين يصبح عدد الخاضعين للسلطة اكثر من عدد الذين يمارسونها وهذه ظاهرة عامة في كل الدول المتبرقعة بالديمقراطية، واذا كان تعدد الاحزاب السياسية والنشاط المكثف للنقابات ولجماعات الضغط من المنظمات غير الحكومية مؤشرا يمكن من رسم بانوراما، او رؤية شاملة عن تجذر الديموقراطية كما و كيفا، شكلا ومضمونا في بلاد ما، فان مؤشرات اخرى كثيرة يمكنها ان تساهم في جعل هذه الرؤية اشد وضوحا و شمولية، سواءا كانت مؤشرات سياسية كعدد المدلين باصواتهم في الانتخابات، او حتى عاطفية، كمؤشر الفرح العالمي ومؤشر البؤس، فالاختلاف الحقيقي الذي يفصل الديموقراطية عن الاوليغارشية هو الفقر والثروة، هكذا يذهب ارسطو في كتاب السياسة.
لكن الديموقراطية في اللغة ليست هي الديمقراطية في الممارسة، فهناك في كل فج ديموقراطي اشخاص يقفون عقبة امام الديموقراطية اما لانهم مفرطون في احتكار السلطة والاستحواذ على الكلمة ما او انهم تفريطيون في حق المواطنة، اي متخلون عن الحد الادنى منها اي، التصويت في الاعراس الانتخابية وهذه مشكلة تهم اصحاب النوايا السياسية الحسنة ذلك انها تعتبر انتقاصا من المشروعية التي تحضى بها الحكومات، فكيف يمكن حكم مواطنين لم يختاروا من يحكمهم ولا كيف يجب ان يكون الحكم ؟ يظهر لنا اذن ان العزوف عن الانخراط في الادلاء بالاصوات يجعلنا نطرح سؤالا جذريا
هل ان الديمقراطية بمطلق البراءة و العفوية مطلب شعبي تستجيب له النخب ام انه على العكس من ذلك منوال سياسي تستثمره النخب وتوظفه في تدبير الشأن العام؟
من الصعب الاجابة عن هذا السؤال اذا لم يتوفر لدينا القدر الكافي من المعطيات التاريخية التي توثق لمساراتةو سيرورات الانتقال من حالة اللاديموقراطية، الى حالة الديموقراطية، ولهذا سنستعين بمثال المجتمع الامريكي الذي يعتبر الاكثر جاذبية ان لم يكن اكثرها، او على الأقل عند الفرنسي الكسي دو توكفيل الذي كتب في كتابه الكلاسيكي “الديمقراطية في امريكا” الامريكيون يشكلون شعبا ديموقراطيا اعتاد دائما تسيير الشأن العام بانفسهم، بينما نحن شعب ديموقراطي منذ القدم لم يستطع الا ان يتطلع الى افضل الطرق لتسييره…”.
ان الديموقراطية الامريكية عند توكفيل هي ديموقراطية مطبقة لا تكف عن القيام باصلاحات ذاتية بشكل طبيعي وهي بخلاف الديموقراطية في فرنسا مثلا التي تنتشر فيها النظريات السياسية دون توفر الممارسة و التجربة السياسيتين.
لكن الوجه الاخر الذي لا يذكره توكفيل يشير اليه المؤرخ الامريكي كريستوفر لاش بوضوح في كتابه انقلاب النخب، يشرح كريستوفر لاش التحولات الطبقية في المجتمع الامريكي بعد حروب التحرير في اخر القرن التاسع عشر، وكيفية تركز الاقطاب المالية و البشرية في مدن امريكية بعينها حاولت الانفصال عن ساكنة المناطق الداخلية والانفتاح تجاريا على الخارج، وقد شهدت هذه الفترة حتى الحرب العالمية الاولى دفقا غير مسبوق للمهاجرين الى الولايات المتحدة ترادفت مع مأسسة العمل المأجور وظهور المجرات الحضرية التي ازالت الفواصل بين الريف والمدينة بما ان الضواحي اصبحت تضطلع بادوار المدينة، وقد جاءت الديمقراطية حسب هذا المؤرخ كحل سياسي لتلافي الخطورة التي كانت تمثلها الغوغاء على حد تعبيره.
ان كريستوفر لاش في هذا الكتاب يسلط الضوء على اشتدداد الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين افراد المجتمع الامريكي مما جعل النخب الحاكمة تنعزل كليا عن الحياة العامة وتصبح هي الخطر الذي يهدد الديموقراطية بعدما كانت الطبقات الدنيا هي مصدر الخطورة.
فالديمقراطية الرأسمالية في الولايات المتحدة لم تكن سوى ادارة للتوحش من اجل تفادي الصدام مع الطبقات الدنيا، أو بعبارة التشيكي توماس سيدلاساك في اقتصاد الخير و الشر الديموقراطية هي ان تربط الشيطان الى المحراث، واستغلال لطاقاته التدميرية في ماهو منتج.
ان العلاقة بين المتغيرات التي تؤدي الى انتشار الديموقراطية او اعاقتها قد اثارت الكثير من الكتابات كالخلاف بين ادوارد غلايستر الاستاذ في هارفارد وبين ايسموغلو، فمثلا غلاستر يرى ان النمو الاقتصادي لا يتحقق الا بارتفاع معدلات التمدرس، وهو ما يؤدي بالقوة الى الديموقراطية، فالديموقراطيات القائمة على المعرفة بقيت صامدة لاكثر من اربعين عاما في النصف الثاني منذ القرن المنقضي، بخلاف الديموقراطيات الجاهلة، لكن ان تؤدي الديموقراطيات الى النمو الاقتصادي فهذا امر تلفه الشكوك، اذ يحدث العكس حين يحتدم التنافس بين الاحزاب الحاكمة، لكن ايسموغلو يرى عكس ذلك، صحيح ان الديموقراطيات توجد عموما في البلدان الاكثر ثراءا و تعلما، لكن سبب ذلك غير واضح، فألمانيا هي اولى البلدان الصناعية في اوروبا و اكثرها تعلما، لكنها صارت الى النازية، ولم يقع ارساء ديموقراطية برلمانية في المانيا الا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، كما ان كوبا ليست ديموقراطية رغم ارتفاع معدلات التمدرس فيها.
اما في المثال التونسي فلم تكن هناك علاقة سببية مباشرة بين الوضع الاقتصادي والهبة الشعبية كما تذهب الى ذلك عالمة الاجتماع الفرنسية بياتريس هيبو، بل ان الشرائح المهيمن عليها كانت دائما منهمكة في تدبر الشأن اليومي والتكيف مع القيم التي يتم اسقاطها من اعلى الهرم الاجتماعي، و لم يقع الالتحام بين النخب والشرائح المهيمن عليها في كتلة متجانسة الا في فترة زمنية وجيزة بدأت بعدها الهوة التي تفصلهما في الارتسام من جديد، وقد استضاحت هذه الهوة اكثر في الانتخابات التي افرزت المجلس التأسيسي الذي انيط به كتابة الدستور، فالشعب قد اختار اسناد اغلبية اصواته الى الاسلاميين كي يحافظ على هويته العربية المسلمة التي يهددها المعسكر الليبرالي، لكن البرنامج الليبرالي للاسلاميين لم يكن في الحقيقة سوى تجريد الانتخابات في مضمونها من اي خيار، هذا اذا ما تنزهنا عن الحديث عن اي لبس قد تشهده الانتخابات من تلاعب بالرأي العام، وتوجيهه او تشكيله.
وحتى نختم هذا الخطب الذي قد لا يختم، يروق لنا لمزيد الاستغراق في لذة نزع الوهم ان نلجأ الى استحضار حادثة تاريخية اوردها المؤرخ موسى فينلاي في كتابه اختراع السياسة، فكثيرا ما يردد انصار الديموقراطية اقتداءا بتجار اسطورة العصر الذهبي ما حكاه بلوتارك عما حدث اثناء القيام بالتصويت على العزل السياسي في اثينا من ان بدويا اميا والكتابة طلب من رجل ان يكتب مكانه على قطعة الخزف المستخدمة للتصويت اسم “اريستيد”، فسأله الرجل عما اخطأ به اريستيد في حقه حتى يرغب في عزله، فأجابه البدوي انه سئم الاستماع اليه وهو يردد “الحق”، ولكن رغم ان الرجل كان هو اريستيد بشحمه و لحمه، ما كان منه الا ان كتب اسمه على قطعة الخزف.هذه الشاهدة اججت حماسة المؤرخين و زادت في تحريضهم على خبط الدفوف و اطلاق الزغاريد لهذا المثال الديموقراطي، لكن ما قد لا يعرفه هؤلاء ان هناك حفريات شهدتها اثينا تحديدا في حي الخزف عثر فيها على اكثر من احد عشرة الف قطعة خزفية مستخدمة التصويت تحمل عليها اسما مكتوبا، ولكن بالمقابل في الجهة الغربية من الاكروبول كانت هناك مجموعة يناهز عددها المائة وتسعين قطعة خزفية تحمل اسم تيميستوكل، و مكتوبة بخطوط عدد من الايادي القليلة، ومن الواضح انها معدة مسبقا لتوزع على الناخبين ثم لم يقع استعمالها، لكن فينلاي يقول انه لا يستطيع تحديد نسبة القطع المعدة مسبقا للتصويت من بين الاحد عشرة الف التي تم استخدامها، ثم انه لا يمكن بعد هذا الجزم ان لا تكون اثينا قد شهدت تزوير الانتخابات الا مرة واحدة في تاريخها الديموقراطي، فاذا كانت اولى الديموقراطيات هكذا، فلا تلومن الصغار على الرقص.
*كاتب من تونس