“إقرَأ”، أوّل أمرٍ إلهيّ في قصّة الوحي عند المسلمين، على حدّ علمي. وعلى نحوٍ مشابه، أوّل كلمة يقرأها قارئ الإنجيل في لغته اليونانيّة الأصليّة هي كلمة “بيبلوس”، أي “كتاب”. الدين أوّله قراءة، والمؤمن ابنُ كتاب. أن تقرأ، هو في الوقت نفسه أن تخوض غمار التفسير، أن تغامر وتفسّر. المسألة كلّها تكمن هنا: كيف أفسّر؟
التفسيرُ سيفٌ ذو حَدَّيَن يجب ألّا يخوضَ غمارَه إلّا الماهرون، وبالأَخصّ المتواضعون. نعم المتواضعون! التفسيرُ يتطلّبُ عِلمًا، والعِلمُ نُسكًا، والنسكُ فقرًا، والفَقر ضِعَةً. التبجُّحُ هنا لا ينفع. كم وقعتُ على معلِّمين مُجِلِّين هم والضِعةَ رِفقَة. رأيتُهم يَلزمون قَلالِيهِم ومكتباتِهم بصمت، يُحرقون عمرَهم بين الكتب والمجلّدات. رأيتُهم يعرفون، لكنّهم يتعاملون معك كما لو أنّهم لا يعرفون. لماذا؟ لأنّ في خَلَدِهم أن يتعلّموا منك.
المتعلّمون الحقيقيّون لا يمتلئون ولا يشبعون. هم في جوعٍ دائمٍ إلى المعرفة. مُتَسَوِّلو معرفة! هؤلاء يَليقُ بهم أن يُفسِّروا، أن يُقدِّموا إلى الناس فُتاتًا من المعرفة. وإن قدَّموا فَبِخَفَر، مخافةَ أن يُطلقوا الأحكامَ المبُرمَة أو أن يَبتّوا في أمرٍ ما بَتًّا مُحكَمًا.
قال لي مرّةً معلِّمي: في تفسيرك، تَجنَّبْ أن تستعملَ كلمة “أبدًا”، لأنّ لا شيءَ مُطلقًا في العلم، حتّى لو بانتْ الحقيقةُ ساطعةً أمام عينَيك. قُلْ: “ربّما”، “على الأرجح”، لِيَقينِكَ بأنّ ما تقولُه يبقى “وجهة نظر”، رأيًا بين آراء متعدّدة.
أتوسّعُ في هذا الأمر لأنّنا نعيشُ في زمنٍ كَثُرَ فيه مَن يدَّعون المعرفة، من يُفتون، مَن يَظنّون أنفسَهم صانعي قرار، مَن يستسهلون الكتابةَ واحتلالَ الشاشات وإطلاقَ الشعارات على المنابر، مَن يَتلطَّون وراء لقبٍ نالُوه أو مركزٍ احتلّوه كي يُكرِّسوا أنفسَهم “معلّمين في إسرائيل”. يكفي أن نَمخر عباب الانترنت حتّى نقع على القبيح من الوعظ والأقبح من الفتاوى. ليس كلُّ ما يُنشَر هذه الأيّام هو نور، لأنّ بعضَ ما يُكتَب ليس نورًا.
مُدَّعو المعرفة هؤلاء لا يَدرون أنّ الكلمةَ مسؤوليّة، متى خرجتْ منهم لم تَعُد مُلكَهم بل مُلكَ الناس، والناسُ تفهمُ كما تشاء. أنت تكتب، لكنّك لا تُسيطرُ على ما سيفهمُه قارئكَ. إن لم تكن كلمتُكَ موزونةً عفيفة، فيمكنُ أن تخربَ نفوسًا وبيوتًا وشعوبًا. الناسُ أحيانًا “ناسٌ من ورق”، إذا أَردنا أن نستعيرَ من الأخوَين رحباني اسمَ إحدى مسرحيّاتهما، “ناسٌ من كلمات”، يتأثّرون بما يُكتَب ويَتَقَولَبون بما يُقال. الكتّاب يصنعون رأيًا عامًّا ويُلهمون ثورات. من كلماتهم تولد شعوب وتتغيّر مصائر وتُقلَب عروش.
قالَ مرّةً الباحثُ الفرنسيّ بول ريكور ما معناه: النصُّ يبقى يتيمًا إلى أن يجدَ له قارئًا يتبنّاه. لو أدرك كُتّابُ هذا الزمن ووُعّاظُه هذه الحقيقة، لَتأنَّوا أكثر في ما يكتبون وفي ما يقولون.
لي هنا خبرة شخصيّة. ارتسمتُ كاهنًا منذ 18 سنة، ومنذ ذلك الحين لا أنفكّ أتكلّم وأكتب بما يمنّ عليّ ربّي من فتات نعمته. دعاني لأكون “رسول الكلمة”، طائعًا لكلمة بولس الرسول الذي أوصى تلميذه تيموثاوُس يومًا ما قائلاً: “أناشدك ظهورَ ربّنا وملكوتَه أن أعلنْ كلمةَ الله وألِحَّ فيها بوقتها وبغيرِ وقتها، وبّخْ وأَنذِر والزَم الصبرَ والتعليم. فسيأتي وقتٌ لا يحتمل فيه الناسُ التعليمَ السليم، بل يُكدّسون المعلّمين لأنفسهم وَفق شهواتهم لِما فيهم من حِكَّة في آذانهم… أمّا أنت فكنْ متقشّفًا في كلّ أمر وتحمّل المشقّات واعمل عملَ المبشِّر وقُم بخدمتك أحسن قيام” (الرسالة الثانية إلى تيموثاوس 4: 1-5). حتّى اليوم، ومع كلّ خبرتي، ما اعتليتُ مرّةً مذبح الكلمة لأعظ الناس إلاّ وارتجفت فرائصي تهيّبًا. الكلمة الملقاة ليست ملهاة، ولا عقول الناس مَكَبًّا عشوائيًّا أرمي فيه فضلات الأفكار وقذارة الكلمات.
كلماتي تولَد عادةً على مهل وتُقرأ بتأنٍّ. كلّ كاتب يتمخّض ليكتب، “كلامه لا يخرج منه إلاّ جرحًا له”، على حدّ قول أحد أساقفتنا المطران جورج خضر. ومأساته أن يلاقيه قارئ مستعجل لا يقيم وزنًا لمعاناته في الكتابة. التمتّع يحتاج دومًا إلى تأنٍّ، إلى هدوء، إلى “مزمزة” كما نقول في لبنان. أبطأُ الناس هم السكارى الذين يجيدون التمتّع بكأس يرشفونه على مهل. القراءة سكرةٌ أنيقة، حضاريّة، شرعيّة، ليس ضدّها ناموس. وعصرنا يحتاج إلى “سكارى” مثل هذا النوع.
القارئُ الأصيلُ غربال، يُسقطُ من رأسِه ما لا يليقُ بعقله. القراءة ليست عملاً سلبيًّا، بل تتطلّب قارئًا نجيبًا غير كسول. من هنا نحتاجُ اليومَ إلى قُرّاءٍ يَصعبُ ترويضُهم، غيرِ مطواعين؛ إلى قُرّاء يرفضون أكثر ممّا يقبلون، يُشكّكون أكثر ممّا يُصدّقون. القُرّاء الحقيقيّون ليسوا جماهيرَ تُصفّقُ لأيّ خطابٍ، ولا قطيعًا يُساقُ إلى حيث يُرادُ له أن يُساق. على القارئُ الحقّ أن يكونَ “زبونًا” صعبَ الإرضاء.
الكاتبُ رسولٌ إلى أهله، وجوهرُ رسالتِه هو أن يبعثَ في قارئه فضيلةَ التمييز والتمحيص. هذا ما فعلَه يسوع عندما أوصى في مكانٍ ما: “تنبّهوا لِما تسمعون”. ألم يَختمْ خُطَبَه في أكثر من مكان بهذه العبارةِ البليغة: “من له أذنان سامعتان، فليسمَعْ”؟ أكرّر أحبّائي: “أذنان سامعتان”!