السلايدر الرئيسيشرق أوسط
حكمة البطريرك الراعي.. ومفاعيل احترام مقام الرئاسة الأولى في لبنان
جمال دملج
– بيروت – من جمال دملج – يُجمع اللبنانيّون في سرِّهم على أنّ الأزمة الحكوميّة المستجِدّة في ضوء “افتعال” ما يُسمّى بـ “عُقدة نوّاب 8 آذار السُنّة” لم يكن ليُقدَّر لها أن تُبصِر النور لولا العُقد المتشابِكة التي كرَّسها “اتّفاق الطائف” في الحياة السياسيّة المحلّيّة تماشيًا مع تفعيل مبدأ “الصيغة التوافقيّة” بين مختلف الأفرقاء العاملين على الساحة اللبنانيّة، ولا سيّما بعدما أثبتت تجارب السنوات الطويلة الماضية، منذ عام 1989 ولغاية يومنا الراهن، أنّ مفاعيل هذه الصيغة أدَّت في نهاية المطاف إلى تشويه أصول وقواعد الديمقراطيّات الصحّيّة المبنيّة على مفاهيم التعدُّديّة في إطار الأكثريّة والأقلّيّة، وبالتالي على معايير التنوُّع في إطار الموالاة والمعارَضة، لترسِّخ في المقابل نمطًا غريبًا للتحاصُص الطائفيّ تحت مسمَّياتٍ سياسيّةٍ أو للتحاصُص السياسيّ تحت مسمَّياتٍ طائفيّةٍ، وهو النمط الذي سرعان ما راح يُجرِّد “الصيغة اللبنانيّة” المرتكِزة أصلًا على ميثاق الاستقلال لعام 1943 الكثير من مقوِّمات اتّزانها منذ أن أفضى “اتّفاق الطائف” إلى تجريد رئيس الجمهوريّة (المارونيّ) من جملةِ صلاحيّاتٍ تمَّ وضعُها تحت سلطةٍ تنفيذيّةٍ من قِبل رئيس الوزراء (السُنّيّ) ورقابةٍ تشريعيّةٍ من قِبل رئيس مجلس النوّاب (الشيعيّ)، لنسمَع إثر ذلك مصطلحًا مستحدَثًا ظلّ ينادي على الدوام بـ “وجوب تحصين موقع السُنّة الأوّل في لبنان”، بمعنى وجوب عدم التفريط بالصلاحيّات الجديدة، علمًا أنّ تجارب السنوات الطويلة الماضية أثبتت أيضًا أنّ لا أحد من رؤساء الوزراء الذين تعاقبوا على “السراي الحكوميّ” كان قادرا على تجيير ما “ملَكَته أيمانه” بعد عام 1989 للمصلحة الوطنيّة العامّة، بدءا من زمان الراحل رفيق الحريري، مرورا بأزمنة فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام، ووصولًا إلى زمان سعد الحريري الحاليّ، خلافًا لما درجت عليه العادة قبل ذلك عندما كانت مفاتيح الحلّ والربط في المسائل الوطنيّة خاضعةً للتناغُم، وليس للتناتُش، بين الرئاسات الثلاث المارونيّة والسُنّيّة والشيعيّة مجتمعةً، انطلاقًا من “قصر بعبدا” في المقام الأوّل، وقبْل أيِّ مقامٍ آخَر في مختلف الأحوال والظروف.
نزعة التهميش
وعلى رغم تبايُن الآراء والتقديرات حول وجوب التسليم جدلًا بأنّ المشرفين على وضع “اتّفاق الطائف” كانوا جادّين فعلًا في البحث عن صيغةٍ نهائيّةٍ لبناء لبنان الجديد على أساسِ شراكةٍ تعدُّديّةٍ عادلةٍ لا لُبْس فيها بين مختلف مكوِّنات نسيجه الوطنيّ، فإنّ ما لا يقبل الجدل هو أنّ السلوكيّات التي تمَّ اعتمادها لدى تطبيق بنود هذا الاتّفاق، داخليًّا وخارجيًّا، أوحت منذ البداية بوجود نوايا مبيَّتةٍ تستهدف “تهميش” دور المكوِّن المسيحيّ في المعادلة التوافقيّة اللبنانيّة مقابل “تغليب” دور المكوِّن الإسلاميّ فيها، الأمر الذي كان قد تجلّى ديموغرافيًّا عام 1994 عندما اشتملت اللوائح المرفَقة بأوّل قانونِ تجنيسٍ صدَر في عهد الرئيسيْن الراحليْن الياس الهراوي ورفيق الحريري، وبموافقة وزير الداخليّة (وقتذاك) بشارة مرهج، على أسماءِ مئةِ ألفِ سُنّيٍّ، وثلاثينَ ألفَ شيعيٍّ، وأربعةِ آلافِ مارونيٍّ، ليبدو القانون إثر ذلك وكأنّه فُصِّل لكي يصُحَّ فيه المثل القائل: “يكاد المريب أن يقول خذوني”، علمًا أنّ هذا التوصيف، وإنْ كان لا ينطوي على أيِّ نيَّةٍ للتذكير بجروحٍ وطنيّةٍ بالغةٍ لم ينجح الزمان في إكمال التئامها بعد، ولكنّ الإشارة إليه في هذه الأيّام الصعبة، وقبْل أن يستبدّ “ألزهايمر التوافقيّ” بعقول اللبنانيّين في الصميم، لا بدّ من أن تكتسب أهميّة قصوى إذا ما أردنا تسمية الأشياء بأسمائها الصحيحة ووضع الأصابع فوق الجروح، وخصوصًا في مجال التأكيد على عدّةِ ثوابتَ وطنيّةٍ بامتيازٍ، وأهمّها أنّ تمايُز لبنان بحضور الموروث الكنسيّ المسيحيّ في رسمِ معالم هويّته الوطنيّة وفتحِ الآفاق أمام رسالته الثقافيّة والحضاريّة والإنسانيّة هو التاج الذي تزيَّنت به رؤوس جميع اللبنانيّين، وأنّ شعار الوطن الذي “لا يكون عالةً على مسيحيّي الغرب ولا شوكةً في خاصرة مسلمي الشرق”، رفعه المسيحيّون لكي يتنعَّم به جميع أبناء الوطن على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم فوق مساحةِ العشرةِ آلافٍ وأربعمئةٍ واثنينِ وخمسينَ كيلومترًا مربَّعًا، وتحت مظلّة “القوميّة الموحِّدة والهويّة الموحَّدة” التي شكّلت على مرّ الزمان صمّام الأمان لوحدة وسيادة واستقلال كلّ لبنان.
حكمة بكركي
على هذا الأساس، ومع ظهور المؤشِّر تلو الآخَر حيال استفحال أزمة تشكيل الحكومة اللبنانيّة العتيدة في ضوء “افتعال” عُقدة توزير أحد النوّاب السُنّة المحسوبين على “فريق 8 آذار” بعدما تمَّت “حلحلة” عُقدة حصّة حزب “القوّات اللبنانيّة” من الحقائب الوزاريّة، وقبْلها عُقدة التوزير الدرزيّ، لم يكن مستغرَبًا أن يؤكِّد البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في أعقاب زيارته لرئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون في قصر بعبدا على أنّ “المرجلة ليست في وضع العصيّ في الدواليب بل بتسهيل التشكيل”، تمامًا مثلما لم يكن مستغرَبًا أيضًا تشديده على أنّه “في حال لم ندعم رئيس الجمهوريّة والرئيس المكلَّف فلن تكون هناك حكومة”، الأمر الذي يدلّ إلى القدْر الكبير من الحكمة المعهودة للصرح البطريركيّ في بكركي لدى التعاطي مع الأزمات الوطنيّة المعقَّدة، ولا سيّما أنّ البطريرك الراعي نقَل عن الرئيس عون أنّه يشعر بألمٍ كبيرٍ “لأنّهم كانوا على أعتاب الإعلان عن الحكومة قبل أن تظهر المسألة الجديدة”، مشيرًا إلى أنّ رئيس الجمهوريّة “لن يقبل بأن تتعثَّر مسيرة الحكومة”، وأنّه “لا يمكن الخضوع إلى مشكلةٍ جديدةٍ، وهو في انتظار عودة الرئيس المكلَّف (من باريس) لإيجاد الحلول التي لا يمكن أن تكون على حساب لبنان والوحدة الداخليّة، ولا وفق ما يسمّيه الرئيس (عون) التوازن الداخليّ”، وموضحًا أنّ “الخروج من الأزمة يكون بالولاء للبنان وليس لدولةٍ أو أشخاصٍ أو حزبٍ أو طائفةٍ أو دينٍ”، وهي الحكمة التي عكسَت في ضوء مجمَل هذه المواقف الصريحة نوعًا من عدم رضى البطريركيّة المارونيّة على طريقة تعاطي بعض الأطراف الداخليّة مع العُقدة السُنّيّة المفتعَلة، وأنّ البطريرك الراعي يرى أنّه لا يجوز أن تبقى الأمور على ما هي عليه، وأنّ على الجميع احترام مقام الرئاسة الأولى… وحسبي أنّ البيت في القصيد هنا يتمثَّل في وجوب التنويه بأنّه إذا كانت العادة قد درجَت على القول تاريخيًّا إنّ “أسوأ أنواع الظلم هو الادّعاء بأنّ هناك عدلًا”، وفقًا لما جاء على لسان أبو الفلاسفة أفلاطون قبل آلاف السنين، فإنّ أسوأ أنواع العدل في الحالة اللبنانيّة الراهنة هو الادّعاء بأنّ “اتّفاق الطائف” كان منصِفًا بحقّ مقام الرئاسة الأولى في قصر بعبدا، وبالتالي بحقّ كلّ اللبنانيّين ممّن لا يزالون يؤمنون بحتميّة “العيش معًا” إلى أبد الآبدين، وليس بوضعيّة “التعايُش معًا” حتّى إشعارٍ آخَر، فشتّان ما بين هذا الدائم وما بين ذاك المؤقَّت… والخير دائمًا من وراء القصد.