أقلام يورابيا

أزمة اليسار والرجم الأيديولوجي

د. مهيب صالحة

د. مهيب صالحة

” اليسار ” في العالم، وخصوصاً “اليسار العربي” بكافة منابعه وتيارته وتلاوينه، هو في أزمة وجودية فاقعة طالما لا يملك للرد على “اليمين” سوى الرجم الأيديولوجي من قبيل : الرأسمالية المتوحشة، فيُظن المرء أن الناس في الدول الرأسمالية المتطورة جداً : أمريكا وأوروبا واليابان وكندا واستراليا… يأكلون بعضهم بعضاً، وأن عمالها تحت خط الفقر وربما بحاجة إلى مساعدة، أو لأنها حجر عثرة في طريق تطور الدول، ولكن تجارب كوريا الجنوبية وماليزيا واندونيسيا وسنغافورة والهند والبرازيل والارجنتين والمكسيم وتركيا وجنوب أفريقيا وراوندا وغيرها خير مثال على إرادة الدول التي لا يحول حجر عثرة مهما كان حجمه وخطره أمام تطورها.
أو العولمة المتوحشة، مع أن العولمة كظاهرة حديثة وعميقة تمس كل المجتمع البشري وهي سلاح ذو حدين. من يعترض عليها، فيه وبلاه، تتحرك وتتطور بفعل المعرفة العالمية التي تتطور مع تطور اقتصادات المعرفة التي صارت تشكل الآن أكثر من ثلث الاقتصاد العالمي، يتحمل من يلجها أعباءها مع الإفادة من فرصها، ويتحمل من يرفضها أعباءها بدون الإفادة من فرصها. والخيار الأول يقوم على قاعدة (خذ وهات) أما الخيار الثاني فيقوم على قاعدة (خذ). ولا يمكن التعامل مع حقائق العصر ومنها العولمة إلا بالوعي وليس بركوب مراجيح الأيديولوجيات المنغلقة لذلك دولة مثل الصين يحكمها ” يسار أيديولوجي ” لكنه يجنبها بذكاء حروب الدبابات لكي تنجح في حروب العولمة الاقتصادية والمعرفية، ودول أخرى يحكمها (يمين أيديولوجي) تساق إلى حروب الدبابات وتقاوم العولمة.
أو الليبرالية المتوحشة، لأن اليسار لا يرى في الليبرالية سوى عيوبها الاقتصادية التي تتعارض مع ثوابته الأيديولوجية، وفي الوقت ذاته لا يؤمن سوى بالقيادة الفردية والإدارة المركزية التي تعطل التغيير والتجديد.
لقد قدم اليسار نماذجه التي فشلت كلها بجميع المقاييس والمعايير. ومع أنه يصر على تحميل المسؤولية لحواملها الاجتماعية، أي لنفسه، وإعفاء الأيديولوجيات التي قامت على أساسها، فهو لا يعترف بأزمته الوجودية كي لا يقال أنه فشل ويطالب بالتالي بنقد ومراجعة نماذجه وأيديولوجياته. وعلى المستوى الحزبي والسياسي فقد فضحت ثورة الشباب السلمية في أهم منطقة في العالم، المنطقة العربية، تفاهة اليسار العربي والعالمي اللذين اختارا الوقوف جانب أنظمة مستبدة ومتخلفة على شاكلتهما.
إن بناء نموذج يساري من لدن الواقع ومعطياته وأفاعيله سواء على مستوى النظرية أو على مستوى التطبيق هو خط سير إجباري لليسار كيما يتجاوز أزمته الوجودية، ويكف عن الهروب إلى أمام برجم منظومات اقتصادية واجتماعية ومعرفية وأخلاقية نقلت البشرية خلال القرنين الماضيين نقلة نوعية لم يعرفها تاريخها من قبل، ويستفيد في الوقت ذاته من قصص نجاحها التي لا تعد ولا تحصى في الاقتصاد والاجتماع والمؤسسات والقوانين والحريات والديمقراطية والمبادرة الفردية والانفتاح على الآخر والمشاركة وأخلاقيات الأعمال والمهن وجودة الحياة ـ مثلما يدعي هذا اليسار أن الرأسمالية استفادت منه في الجانب الاجتماعي كتحديد ساعات العمل والضمان الاجتماعي والصحي ـ مع أن هذه أهداف اجتماعية عامة لنضال جميع الشعوب ليس لأحد فيها منة على أحد.
كما أنها، وفق أولويات إنسانية، لا تساوي شيئاً إذا لم يمارس الإنسان حريته ومواطنيته اللتين فقدهما في النماذج اليسارية. ومن المتوقع أن تكون الصين المرشحة الأولى لبناء هذا النموذج، إذ ربما تستفيد من دروس الرأسمالية في الليبرالية السياسية كما استفادت من ليبراليتها الاقتصادية ونجحت أيما نجاح حتى صارت الاقتصاد الثاني عالمياً، ولا توصف رأسماليتها أو عولمتها أو ليبراليتها الاقتصادية بالمتوحشة بالرغم من أن معدل أجر ساعة العامل فيها / دولارين / فقط، بينما في الولايات المتحدة الأمريكية الاقتصاد الأول عالمياً يبلغ ( 16 دولار ).
كما تجتاح صادراتها ورساميلها وتقانتها دول العالم إلى جانب صادرات أمريكا ورساميلها وتقانتها، وتدخل معها في حرب أجور وسعر صرف. ومن غير المستبعد في السنوات القادمة ـ إذا وعى اليسار العالمي ضرورة تجاوز أزمته ـ أن يتحكم بالتوازن العالمي حزبان (يسار ويمين أحدهما شيوعي والآخر جمهوري أو ديمقراطي بدون رجم أيديولوجي أو حرب دبابات. أما اليسار العربي فمن الواضح أنه لن يكون سوى عربة من ضمن عربات معلقة بقطار اليسار العالمي إذا أثر التحرك على خط السير الإجباري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق