رياض عصمت
لا أريد أن أستبق تنبؤات ميشيل حايك في ليلة رأس السنة دون مؤهلات، ولا أرغب في أن أرجم بالغيب على طريقة ليلى عبد اللطيف، فأنا لا أزعم إطلاقا أنني أملك بصيرة ثاقبة، كما أنني لا أملك عن الأبراج معلومات ماغي فرح أو كارمن أو سواهما من المتنبئات البارعات بما يخبئه العام الجديد من أسرار. لكن، بعيدا عن البصيرة الثاقبة والرؤى الكاشفة، فإن شعورا غامضا متزايدا ينتابني بأن الأشهر القادمة ستكون حبلى بالمفاجآت.
في الواقع، ترددت عبر وسائل الاتصال الاجتماعي مؤخرا نظرية غريبة أعادت تسليط الضوء على نهاية العالم، التي أشيع قبل سنوات أن موعدها هو العام 2012، حتى قاربت السينما ذلك بفيلم من أفلام الكوارث. ينقسم مطلقو النظرية الجديدة إلى تيارين رئيسين؛ يعتمد الأول منهما على معلومة مجهولة لدى عامة الناس ومعروفة في تقويم الماسونيين تشير إلى أن العام 2019 هو في الحقيقة المقابل في مفهومنا الشائع للعام 2012، ويتنبأ هؤلاء بأن موعد الكارثة سيكون في سبتمبر/أيلول من 2019.
أما أصحاب التيار الثاني، فيعتمدون على تقويم آخر قديم لبعض حضارات أميركا اللاتينية المشهورة بغرائبيتها حتى قيل إن وراءها مخلوقات هبطت من الفضاء، وهم يشتركون أيضا في القناعة بأن العام 2019 هو المقابل للعام 2012، لكن موعد الكارثة لديهم أقرب، بحيث حددوا وقته في فبراير/شباط من العام المذكور.
يقال ردا على هذه التكهنات “كذب المنجمون ولو صدقوا”. عرف العالم هذا النوع من التنبؤات منذ عصر نوسترأداموس وما قبله، وما زالت تجذب ملايين المتابعين، سواء تحقق منها الكثير أو صادف منها القليل.
كي لا أكون في مثل تطير الشاعر أبي نواس، الذي يحكى أنه إذا صادف قطا أسود وهو خارج من داره، كان يؤوب عائدا إليها، ولا يخرج منها طيلة اليوم، أعترف أن ما يراودني من توجس ليس بسبب كوارث طبيعية، بل كوارث أغلبها من صنع بشري.
منذ قديم الزمان، كتب وليم شكسبير: “إن المصائب تأتي تباعا”. بالفعل، هناك حكمة يصعب تفسيرها وراء هذا القول البليغ. لا أظن أن “الربيع العربي” ولا قانون “ماغنيتسكي” أو الحروب التي اندلعت في الشرق الأوسط كانا في حسبان سوفوكليس أو شكسبير أو برشت أو أي من الكتاب الملهمين الذين أبدعوا أعمالا سياسية شهيرة.
هكذا، لم يصح العالم من ردود الفعل على جريمة اغتيال الكاتب الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول وتداعياتها الخطيرة على مستويات دولية غير مسبوقة، حتى اندلعت تظاهرات ذوي السترات الصفراء في فرنسا، والتي تذكر بكومونة باريس التي خلدها فكتور هوغو في روايته الملحمية “البؤساء”، واقتبس عنها ميوزيكال مسرحي شهير.
صاحب أحداث باريس الأخيرة ـ التي لم ينج من أثار التخريب فيها حتى قوس النصر الشهير وشارع الشانزيليزيه الراقي ـ موجة عربية من السخرية العارمة عبر وسائط الاتصال الاجتماعي. وصلتني من مختلف أرجاء الدنيا دزينات من الصور والتعليقات على نشوب ما يشابه “الربيع العربي” في عقر دار العاصمة الفرنسية، ومظاهر الفوضى وتهديم الممتلكات العامة والخاصة وتحدي القانون والاعتداء على رجال الأمن التي توازي ـ لوجه الغرابة ـ ما جرى في بعض بلدان الشرق الأوسط.
أدت اضطرابات السترات الصفراء الفرنسية إلى التذكير بالمثل القائل “مصائب قوم عند قوم فوائد”. سواء كان مطلقو الإشاعات والنكات من الموالين للأنظمة أم من المعارضين لها، بدوا كأنهم يوجهون رسائل شماتة مفادها “ما حدا أحسن من حدا”.
ذهب بعض التعليقات بعيدا إلى “فبركة” فيديوهات عن طالبات لجوء من الحسناوات الفرنسيات يطلبن السترة مع أولاد الحلال، أو يعلن انشقاقهن عن قوات الجيش والشرطة الفرنسيين وانضمامهن إلى منظمات جهادية متطرفة. كما انتشرت نكات مناوئة للرئيس ماكرون بشكل نكات جنسية فاضحة، سواء كلامية أو مصورة. أما الأطرف فهو أن ناشريها لم يبالوا بأن الفتيات الحسناوات يرطنَّ أحيانا باللغة الروسية وليس بالفرنسية!
السلاح الأبرز في موجة السخرية تلك هو التلويح بنظرية المؤامرة، وتأكيد وجود مندسين دفعت لهم جهات أجنبية ما ثمن تظاهرهم، كما شاعت التهمة حول بعض انتفاضات الربيع العربي.
إذا بحثنا بموضوعية، سنلاحظ أن تظاهرات باريس ـ وهي الأعنف من نوعها منذ “ثورة الشباب” في عام 1968 ـ نشبت بسبب مباشر هو رفع ثمن المحروقات، دون مراعاة الحكومة لوضع المواطن المعيشي المتفاقم نتيجة ارتفاع الأسعار وتفشي البطالة وصعوبة تأمين تكاليف الحياة الباهظة. امتدت ظاهرة احتجاجات أصحاب السترات الصفراء إلى بروكسل في بلجيكا ليهدد سريان النار عدة بلدان أوربية.
هناك فعلا بعض أوجه التشابه في الدوافع الرئيسة لكومونة باريس في عام 2018 توازي ما حدث في تونس ومصر وسوريا، خاصة مع موجة الجفاف التي ضربت المناطق الشرقية من الأخيرة لمدة ست سنوات. الفارق البارز أننا في باريس لم نسمع بإفلات جمل ليدوس المتظاهرين، ولم نسمع بزعران مجهولين أطلقوا الرصاص الحي على رأس أحد، ولم نسمع عن اعتقالات عشوائية وتعذيب بسبب تظاهرة سلمية.
هل يا ترى يصح مع هذه الظاهرة الفرنسية ـ كما لمح بعض أصحاب الخيال الجامح ـ التطرق إلى “نظرية المؤامرة”؟ وهل هدف المؤامرة هو الرئيس الفرنسي ماكرون لإطلاقه دعوة إلى بناء جيش أوروبي يبعد بلاده وأوروبا عن الحاجة إلى حلف الأطلسي؟ أم أن المؤامرة محض خيال، لأن هدف التظاهرات هو الرئيس ماكرون بسبب محاباته للأثرياء، وفشل برنامج الإصلاح الاقتصادي مما أدى لازدياد أعداد من هم تحت خط الفقر؟
الطريف أنه تردد مؤخرا أن تظاهرات السترات الصفراء بدأت بتحريض من بائعة أدوات تجميل في ضواحي باريس تدعى بريسليا رودوسكي على “فيسبوك”، نالت تأييد 400 شخص في بداية الأمر، ثم تزايد العدد حتى بلغ 800 ألف مؤيد. لكن الصبية السوداء ما زالت حية ترزق، بل اشتهرت فجأة وصارت صورها تملأ وسائل الإعلام دون أن يطالها سوء.
تشير الوقائع إلى أن السلطات الفرنسية بادرت لرأب الصدع بين الدولة والشعب عن طريق إلغاء قانون زيادة أسعار المحروقات، ثم أتبعت ذلك بالحوار مع أصحاب السترات الصفراء ـ وإن رفض الحوار جزء غاضب منهم، وقبل به آخرون ـ مما امتص قدرا لا يستهان به من موجة غضب المتظاهرين، وألقى بالماء بدل البنزين على النار المستعرة. بالتالي، بشكل متواز مع مواجهة التظاهرات التي بدأت بـ 8000 شرطي من قوات حفظ النظام المدعومة بالسيارات المصفحة، والتي استخدم فيها الغاز المسيل للدموع وبعض الطلقات المطاطية واعتقل خلالها أكثر من ألف متظاهر دون اللجوء إلى إفراط في القسوة أو التسبب بمقتل أحد، تم اللجوء إلى ثلاث وسائل سلمية هي: التفاوض والحوار البناء، التراجع عن قانون زيادة سعر المحروقات وإلغائه كليا، والوعد بإصلاحات شاملة تساعد على مواجهة المواطنين لأعباء التضخم النقدي.
نتيجة لذلك، تناقصت أعداد المتظاهرين في “مدينة النور” بشكل ملحوظ، خاصة بعد أن اعتقل مئات من الرعاع المشاغبين الذين أتوا إلى العاصمة من مدن أخرى مسلحين بالمطارق وأدوات تخريب الممتلكات والسيارات.
هل تنتهي الأزمة في باريس وتعود الأمور سريعا إلى الهدوء والاستقرار النسبيين، أم يضطر الرئيس ماكرون إلى التنحي كما سبق تاريخيا أن تنحى الرئيس شارل ديغول عندما انقسم الرأي العام حوله عبر صناديق الاقتراع، وعندما تنحى الرئيس الباكستاني برفيز مشرف كي يحقن الدماء ويوقف التظاهرات العارمة التي اندلعت بسبب إقالته رئيس المحكمة العليا في باكستان؟
في الواقع، يصعب التكهن بالمستقبل في فرنسا، بل في أوروبا وفي دول العالم أجمع، فكل شيء مرتبط بالظروف المعطاة، بوعي الجماهير، بحسن التصرف والحكمة في معالجة أية أزمة لإيجاد المخرج السليم منها عن طريق كسب رضا الجماهير العريضة بإنصافها، بالمساواة بينها وبتحسين شروط حياتها المعيشية.
كما استهللت كلامي، لا أزعم إطلاقا القدرة على الرجم بالغيب وقراءة المستقبل، لكن المؤكد أن الكوارث ـ البشرية منها والطبيعية ـ تأتي تباعا. وحدها التقاليد الديمقراطية تتيح للأمن أن يسود بعد الاضطراب دون إسراف في القمع، بحيث لا يبقى الجمر مستعرا تحت الرماد، بل يتم درء الخطر الداهم عن طريق إصلاح حقيقي وملموس يلجم غول الغلاء ويبدد شبح الحاجة، موفرا فرص العمل التي تحيي في نفوس الشباب الأمل، فلا يكون الإصلاح مثل “كلام الليل الذي يمحوه النهار”.
الحرة