أقلام مختارة

«متلازمة» الثورة عند الفرنسيين

زياد الدريس

زياد الدريس

حين اشتعلت ثورات ما سُمي «الربيع العربي»، خرج أحد الفرنسيين ليعلن ببالغ الزهو والاعتداد الفرنسي المعهود، أن كل ثورة تحدث في هذا العالم فإنها تنطلق من رحم الثورة الفرنسية «المجيدة».

حسناً، وماذا عن الثورات التي حدثت في تاريخ البشرية قبل عام ١٧٨٩ (عام الثورة الفرنسية)؟

سيجيبك الفرنسي (بكل تواضع): كل الثورات ما قبل الثورة الفرنسية لم تكن ثورات ناضجة!

الزهو الثورجي عند الفرنسيين تجاوز الحدود التاريخية إلى الحدود النفسية، أو ربما البيولوجية للشخصية الفرنسية، بحيث أصبحت «الثورة» تجري من ابن آدم الفرنسي مجرى الدم!

عشت في باريس أكثر من عشر سنوات، ورأيت كل شيء فيها جميلاً، عدا ما يبدو أنه «ارتدادات» من الثورة الفرنسية، حيث النزعة الاحتجاجية والتذمّرية الدائمة عند أهلها. فالفرنسي قليل الرضا عن حاله المادية ولذا تكثر الرشاوى والبخاشيش، وقليل الرضا عن حاله الزوجية ولذا تكثر المغامرات مع العشاق، وقليل الرضا عن حاله الصحية، ولذا يكثر انتشار العيادات واستهلاك الأدوية.

لم يكد يمر شهر واحد أثناء إقامتي هناك من دون أن تعلن بلدية باريس عن أن مظاهرة أو إضراباً سيحدث في اليوم الفلاني في الشارع الفلاني. كان الإضراب دوماً جزءاً أساسياً من أدبيات العمل الفرنسي، وذلك بالاتكاء على القيم الاشتراكية المهيمنة في فرنسا حتى اليوم… وحتى الغد. ليس لأن الفرنسيين اختاروا منذ زمن الانحياز للاتجاه اليساري، ولكن لأن اليسارية اختارت الإنسان الفرنسي، المنسجم مع قيمها بطبيعته!

يكاد يكون الاحتفال العالمي بيوم العمال (الأول من مايو) في المدن الفرنسية هو الأكثر فاعلية وتفاعلاً حتى منه في المدن الروسية، وقد لا يضاهيه سوى الاحتفال المماثل في كوبا وفنزويلا!

في الحقيقة أن «الربيع» الفرنسي، المتواصل الآن منذ أسابيع، يكاد يؤول إلى خريف تخريبي أشد مما آلِ إليه الربيع العربي. لا أريد أن أستطرد في الشماتة بالفرنسي الصهيوني برنارد هنري ليفي، كما فعل كُثُر قبلي، ليس احتراماً له، ولكن ألماً على باريس الجميلة التي يتم تخريبها كما تخرّبت دمشق وحمص وحماة وغيرها من مدن الربيع العربي الفتّاك!

واتهام روسيا وأميركا أنها خلف حركة أصحاب السترات الصفراء لن يخفي جاهزية الفرنسي ودافعيته للثورة في أي وقت، سواءً توفّر الدعم الخارجي المساند له، أم لم يتوفر.

ولكن هل سيطول الخريف الفرنسي كما طال الخريف العربي؟

لا أظن ذلك، لأسباب لن تغيب عن فطنة القارئ الحصيف!

* كاتب سعودي.

الحياة اللندنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق