أقلام مختارة

الإعلاميون ومصداقيتهم

حسين عبد الحسين

حسين عبد الحسين

مطلع الألفية، يوم كنت أعمل في صحيفة في بيروت، نشرت تقريرا عن مقهى ألصق لافتة أعلن فيها أنه يتحفظ عن خدمة أي زبائن ممن لا يرى أن أشكالهم أو تصرفاتهم لائقة. كان المقهى المذكور، وهو يتبع لسلسلة أميركية، منزعجا من تردد جماعة كبيرة من مثليي الجنس عليه، وهو ما أسبغ عليه صفة، ربما أبعدت زبائن آخرين.

انزعج أصحاب المقهى لأن مقالتي كانت بالإنكليزية، وهو ما سمح للإدارة العامة في أميركا بمطالعة الموضوع، وتاليا فتح إمكانية سحب الترخيص الأميركي. للانتقام، قامت إدارة المقهى في لبنان بإلغاء 50 اشتراكا في الصحيفة التي كنت أعمل فيها، ما أثار حنق الناشر، الذي استدعاني وأمرني بتدارك الأمر، على الرغم من أني حاولت إقناعه بمهنية ما نشرناه وافتراء أصحاب المقهى على مثليي الجنس من الزبائن.

تلك الحادثة كانت مثالا عن النفوذ الذي يمارسه أصحاب القوة والمال، لا على الصحافة فحسب، بل على كل أنواع الكتابة والإعلام، وهو ما أعطانا القول المأثور إن “التاريخ يكتبه المنتصر”.

لكن أصحاب النفوذ يندر أن يتفقوا فيما بينهم، ما يفتح كوة للاحتماء بحاكم لانتقاد آخر. هكذا، انتقل نفر من مسيحيي لبنان المثقفين إلى مصر، حيث أسسوا، في كنف خلفاء محمد علي الكبير، صحافة كسرت محظورات السلطنة العثمانية، التي كانت تستقي شرعيتها من أساطير دينية أسبغت عليها هالة غير قابلة للانتقاد.

هكذا، أسس الأخوان اللبنانيان بشارة وسليم تقلا صحيفة الأهرام في مصر في العام 1875، ونالت صحيفتهما حظوة واسعة بسبب جرأتها وحريتها، وهي جرأة أوصلت بشارة تقلا إلى السجن في زمن الخيديوي اسماعيل، قبل أن تتحول الأهرام إلى مطبوعة حكومية مملة مع ثورة الضباط “الأحرار” في العام 1952 وحتى اليوم.

وأصحاب الكلمة، مؤرخون وإعلاميون، يندر أن يتمتعوا بنفوذ يمنحهم حصانة جسدية واستقلالية مالية كافية ليكتبوا ضميرهم. على أن أصحاب الضمير بينهم يعرفون كيفية “السير على السور”، وقول الحقيقة كما يرونها، ما أمكن، والسعي للانحياز دائما للمظلومين والضعفاء، ومناصرة العدل وحقوق الإنسان.

وحيث يتعذر قول الحقيقة لأسباب متنوعة، منها الخوف من بطش السلطان أو من سطوة المال، يمكن للكتاب تفادي “قول الزور”، وهو أضعف الإيمان.

لكن التملق للسلطة والتمتع بالمال والجاه هي من المغريات التي تقنع بعض الصحافيين بأن لا ضير من التخلي عن الطوباوية والتحلي بالواقعية، فينخرط المؤرخ أو الإعلامي في الدعاية لهذا الحاكم أو ذاك الثري ويصور خطاياهم حسنات، فيتمتع بعطاياهم، ويتمادى في تبجيلهم، وعلى حسب القول المشرقي المأثور إن “من يأكل في طبق السلطان، يضرب بسيفه”.

ولأن منطقة الشرق الأوسط تعيش بلية المال الذي يهبط من السماء ويستولي عليه الأقوياء، بدلا من الحكماء؛ يشتري الأقوياء الحكماء أو يقمعونهم، فتصبح خيارات أصحاب الكلمة إما الدعاء بطول عمر السلطان، أو مواجهة السجن والجوع.

هذا هو النموذج الإعلامي الذي استفحل في دنيا العرب حتى ألفه القراء واعتقدوه الوحيد.

في المقالات التي يكتبها النفر القليل المتبقي من الصحافيين العرب من أصحاب المصداقية والضمير، يندر أن تكون ردود الفعل ذات مصداقية وضمير مشابه، فالقراء ـ ومنهم الكثير من الأشباح الإلكترونية التي تديرها أجهزة الاستخبارات العربية المتعددة ـ يسعون لقراءة ما يتوافق وقبليتهم وانحيازهم، فيرمون ما لا يتوافق مع آرائهم، ويتهمون الصحافيين المخالفين بأنهم أزلام هذا السلطان أو تلك الدولة. ويتهم القراء الإعلاميين بأنهم متحاملين، ومتآمرين، وصهاينة، وإمبرياليين، إلى آخر اسطوانة الشتائم المملة المعروفة.

لكل زمن أبواق تعمل بإمرة السلطان، مثل أشهر شعراء العرب أبي الطيب المتنبي. وفي كل زمن، كذلك، أصحاب ضمير ممن يبحثون عن الحقيقة، ويكتبون ما يعتقدونه بصدق، حتى لو كانوا يعيشون في بيوت طين في الفلوجة العراقية، مثل الراحل معروف الرصافي.

القراءة جزء من تدوين التاريخ، وتحلي القراء بالذكاء وابتعادهم عن الحزبية، وإقبالهم على الحقيقة يترك الدعاية وحيدة فتموت الدعاية وتعيش الحقيقة، حتى لو كانت حقيقة مختبئة بين السطور، أو على شكل حيوانات ناطقة، ففي كليلة ودمنة تدوين لواقع بغداد العباسيين أكثر بكثير مما في أشعار أبي الطيب، على أناقتها.

 

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق