أقلام مختارة

المطلوب من الرياض الوضوح ومن الأمير الكلام

حسن منيمنة

حسن منيمنة

أن يكون الأمر عند وقوعه جاء مربكا للأوساط المسؤولة في الرياض شأن يفهم. أن تكون التحقيقات معقدة في بعض الأوجه ومحرجة في أوجه أخرى، هو أيضا مما يتوجب اعتباره عند التقييم الموضوعي لتعامل الرياض مع قضية مقتل جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول. ولكن أن تمضي الأسابيع ثم الأشهر، وتمعن القيادة التركية في تسريب للقرائن بالتقسيط، وفي تلويح على دفعات حول المسؤولية المباشرة لولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، دون أن يصدر عن الرياض ما يرتقي إلى مستوى الرواية المتماسكة المقنعة، مهما كانت تفاصيلها، فأمر لا ينمّ بالخير حول الإمساك بزمام الأمور في المملكة.

لم يعد مقتل جمال خاشقجي القضية العابرة التي يمكن انتظار خمود أجيجها للعودة إلى سابق الحال من جهود تقديم صورة جديدة عن السعودية للعالم. بل قضية جمال، في قباحتها الحقيقية كما في التنميقات الإضافية التي أغدقها عليها الإعلام المعادي للسعودية، هي الصورة التي سوف تبقى لاصقة بالمملكة دون انفكاك إلى حين تتفضل الرياض على العالم بالوضوح المطلوب، وبالجدية المتوقعة، وبالعدالة غير القابلة للصرف.

يمكن للرياض أن تراهن، كما يفعل البعض في واشنطن، بأن المسألة، على جسامتها، من شأنها أن تتلاشى. وربما كان في ذلك قدر متراجع من الواقعية، ولكن ما لا بد من الإقرار به هو أن الجهود المشتركة للحكومة التركية والصحافة المعارضة في الولايات المتحدة قد أسسا لحالة تبدل معها الهبوط الهادئ الذي كان البيت الأبيض يتمناه لهذه القضية، ليمسي محاولات متكررة ومتعثرة لهبوط قد لا يتحقق بل قد تقع معه الكارثة.

لا شك بأن قضية قتل جمال قد وظّفت لما يتجاوز السعي إلى إحقاق الحق، وأن جلّ من يدين السعودية ويطعن بها بشأن جمال اليوم كان يدينها ويطعن بها بشؤون أخرى بالأمس، كما أن من يلتمس لها الأعذار اليوم ويطالب وضع الحدث في سياقه، كان بالأمس يدعو إلى تفهّم ما تقدم عليه، من إعدام الشيخ النمر مظلوما، إلى المقتلة العبثية في اليمن والتي انتفى منطقها الحربي منذ أعوام ولم يعد يبرر الاستمرار بما تقترفه من نزيف إلا الهيبة وحفظ ماء الوجه.

السعودية، ولا سيما في ظل قيادتها الجديدة، جديرة بالمساءلة، فسياستها الإقدامية الجسورة قد جنحت إلى التهور في أكثر من موقع، داخليا وخارجيا، دون الحاجة إلى سرد تفصيلي للقضايا، ولكن السعودية كذلك دولة قادرة رشيدة يمكن التعويل عليها لموازنة توجهات دول عدة، أقل قدرة ربما وأقل رشدا في حالات عدة، بما يساهم في ضمان الاستقرار الاقتصادي للعالم.

ولكن، فيما يتعلق بالجريمة التي أودت بحياة جمال خاشقجي لا هذه الاعتبارات ولا تلك هي الحاكمة. لا ينفع تنزيه السعودية في مقتل جمال لأنها “الدولة الضرورة” لمن أراد تصنيفها كذلك، ولا يصحّ تجريمها تلقائيا لأنها مصدر التشدد والتطرف والإرهاب، على من يسمها بهذه النعوت.

ما إن اختفى جمال خاشقجي في قنصلية بلاده، وبدا التخبط في الروايات المتعاقبة، بما في ذلك المهزلة المأساة التي قدمها سعادة القنصل أمام العدسات، فاتحا الخزانات الصغيرة ليتأكد المشاهدون من أن جمال ليس فيها، بالإضافة إلى الكلام غير القابل للتصديق بأن آلات التصوير في المبنى ليست للتسجيل بل للمراقبة وحسب، والصادر عن السفير السعودي لدى الولايات المتحدة، كان جليا أن من يدير الملف يضرب خبطا عشواء، ولكن كان واضحا كذلك أن المملكة، كلها من ملكها إلى ولي عهدها إلى أجهزتها كافة، تتحمل المسؤولية المعنوية لهذا التغييب، وأنه ثمة ثمن سياسي سوف يرغمها خصومها وأصدقاؤها على سداده.

فرغم محاولة بعض الإعلام الموالي للسعودية اختبار روايات شطحية بديلة، كالتلميح بأن “الدولة العميقة” التركية أو ربما من هو مرتبط بدولة أخرى صغيرة جدا جدا، بل الإخوان المسلمين في استجداء للعطف الدولي، هم من رتّب إخفاء جمال لإحراج الرياض، فإن طفح المادة التوثيقية الصادرة عن الأجهزة التركية، (وكيف لا تكون المراقبة التركية عند أقصاها، وتركيا والسعودية على تنافر سافر)، أبطل هذه الأقاصيص، وأرغم الروايات السعودية على الاقتراب رويدا رويدا من الوقائع.

ولكن هذا لا يعني بالضرورة بأن الدوائر السعودية كانت تنشط لإخفاء جريمة ارتكبتها قيادتها، كما حسم البعض تعسفا، بل إن كان هذا ما تفعله هذه الدوائر فإن فشلها كان ذريعا ولا يليق البتة بما صرف على إعدادها وتدريبها من طاقات وأموال، بقدر ما يدل على افتقاد هذه الدوائر للقدرة على التفاعل البناء مع الوقائع المستجدة التي تطال قيادتها.

قد يكون الرجل بالفعل، كما أفاد تقييم وكالة الاستخبارات المركزية في الولايات المتحدة، هو من أصدر الأمر بقتل جمال خاشقجي بهذا الشكل الاستعراضي، وهو ليقدم على ذلك يكون قد وصل به الغرور إلى أقاصي الطيش، ليتجاهل المراقبة التركية الأكيدة، وليفرّط بالمؤتمر الاستثماري والذي بنى عليه قدرا لا يستهان من طموحه التنموي.

هذا ما رسا عليه التقييم، ولكن، من باب “درء الحدود بالشبهات”، يمكن النظر باحتمالات أخرى وإن كانت أقل رجحانا. فقد لا يكون محمد بن سلمان هو من أصدر الأمر المباشر بالقتل، بل كان قصده استجلاب جمال خاشقجي وإخضاعه، على ما في ذلك من تعديات خطيرة على الحقوق والحريات، فبالغ الفريق المولج بالمهمة، وفيه من فيه من المتنمرين الذين تدرجوا بجسارتهم وعدوانهم دون رادع على من أوقفه الأمير الشاب من الأمراء والوزراء والمتمولين ورجال الفكر والدين في الداخل السعودي، فعمدوا إلى تصفيته عن سابق تصور وتصميم استباقا لرغبة الأمير بالاقتصاص منه، نظرا لنشاطه المعارض، متجاوزين مصلحة الأمير في التوقيت وشكل الأداء.

محمد بن سلمان قد أبدى من التهور والتعجرف في أكثر من ملف ما لا يمكن معه استبعاد مسؤولية جنائية مباشرة له في إصدار الأمر بقتل جمال خاشقجي. ولا شك أن سلوكه السابق هذا كان في صلب التقييم الذي أصدرته وكالة الاستخبارات المركزية.

غير أنه لا بد من توضيح طبيعة هذا التقييم، فالغرض منه ليس الاقتصاص من متّهم، بل حماية مصلحة الولايات المتحدة، أي أن معيار الإثبات ليس انعدام الشك المعقول، بل الرجحان على أساس المعطيات المتوفرة. فإذا كان الفرد بنظر القضاء ولاستحقاق العقاب بريئا إلى حين ثبوت التهمة، فإنه بنظر التقييم الاستخباراتي، ولتوجب الإجراءات الاحترازية إزاءه، مذنبا إلى حين إثبات البراءة.

فمع صدور التقييم، ومع اطلاع مجلس الشيوخ على القرائن التي أوصلت إليه، تنتقل مهمة التبيان من واشنطن إلى الرياض، ولا يكفي الحكومة السعودية أن تدين بدورها الإدانة الصادرة عن مجلس الشيوخ من خلال التخفي حول السيادة والإعلان بأن الأمر مسألة داخلية.

ولا يمكن تبديد الموضوع عبر أن جمال خشقجي “رجل واحد وحسب” أو أنه “قال كذا” أو “فعل كذا”، أو عبر الإشارة المحقة أن القتل والتصفية والإخفاء يطال أعدادا لا تحصى، وتتورط به مختلف الدول، الكبرى منها والصغرى، فأين الاستهجان، ولمَ التركيز على حادثة وإهمال حوادث؟

ربما أن الجواب على هذه التساؤلات بسيط. فالقباحات كثيرة، ولكن طالما أن إمكانية التبرؤ منها قائمة، فإن استثمارها من الخصوم على صعوبة. أما في حالة السعودية، فالتفاصيل المخزية لقتل جمال أصبحت مكشوفة ولا مجال لإعادة دفنها. فالسبيل الوحيد لتجاوز هذا المأزق من جانب السعودية هو كامل الوضوح والشفافية.

رغم التقييم الاستخباراتي، فإن في واشنطن وغيرها من العواصم عدد غير قليل من المتمسكين بنفي التهمة عن الأمير الشاب. مواقف أكثر هؤلاء صيغت انطلاقا من مصالح لهم تنتفي أو تتراجع إن ثبتت عليه التهمة، فيما مواقف بعضهم تأتي حرصا على مستقبل للسعودية يبدو أكثر غموضا إذا ما شهدت البلاد تناطحا على السلطة في سعي لإقصائه.

وثمة من يأمل كذلك، انطلاقا من المستقبل الواعد لهذا الأمير ولبلاده، أن تكون تلك المقولة التي تزداد ضيقا من إمكانية ألا يكون تورّطه بمقتل جمال خاشقجي يصل إلى حد المسؤولية الجنائية، على مرجوحيتها، هي الصائبة.

لن يهدأ الوضع للسعودية ما لم تستقم روايتها وينتظم تحقيقها وتتحق فيها العدالة لجمال خاشقجي. وبغضّ النظر عن الوقائع والتفاصيل فإن المسؤولية المعنوية كما الثمن السياسي على عاتق الأمير الشاب، وإن اقتصر الأمر على هذا وذاك، فله من الرصيد ما يمكنه من تجاوز المحنة.

ولكن في الأمر ما هو أخطر في حال استقرار افتراض الذنب الجنائي. فالمطلوب من الأمير الشاب أن يتكلم، يقرّ حيث يجب وينفي كما يتوجب. فإذا كانت البينة على من ادّعى، فإن اليمين على من أنكر. والصمت في هذه الحالة، مع التقييم الاستخباراتي الذي يتجاوز الاتهام الظني وإن لم يبلغ حد إثبات التهمة الجنائية، هو القبول بالذنب المباشر.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق