سناء العاجي
سأبقى دائما عاجزة عن تفهم كمّ العنف المحيط بنا. العنف، المغلف بالكثير من الجهل والجبن.
حين يكتب شخص موقفا لا يتفق معه البعض، وحين يعجز هؤلاء عن المحاججة، يصبون عليه وابل عنفهم. الكارثة أن هؤلاء المعنفين يدّعون الدفاع عن القيم المحافِظة وعن الدين وعن التدين.
هكذا، ودفاعا عن التدين وعن الإسلام وعن التقاليد وعن الرسول وعن الشخصيات البارزة في التاريخ الإسلامي، يقومون بتصرفات لا هي دينية ولا هي أخلاقية ولا هي إنسانية: يشتمون المختلف معهم ويهينونه في كرامته وشخصه وأهله.
فأي تدين هذا وأية “قيم تقليدية محافظة” تجعلنا نتبجح بالدفاع عن الله، ونحن نأتي بأبشع السلوكيات في حياتنا اليومية، اتجاه من يختلف منا؟
لنتأمل هذه الواقعة، كمثال فقط ضمن أمثلة كثيرة متعددة:
بدأت، منذ بضعة أيام، كاتبة مغربية شابة تفضح محتوى الرسائل التي تصل على علبة رسائلها في تطبيق المسنجر. أغلبنا لم يتفاجأ من كم العنف الذي يصلها ولا من التناقض بين المعلن وبين السري. بين الواضح وبين الخفي.
إليكم بعض النماذج: فهذا يطلب منها دردشة تخص تفاصيل شخصية، وحين لا تتفاعل معه، يهينها ويشتمها ويسبها، بل ويشكك في كونها كاتبة أصلها، ليس لأنه قرأ روايتها ولم تعجبه، بل فقط لأنها لم تتفاعل معه في إطار دردشة شخصية.
وآخر لا يبحث عن الدردشة. يبعث لها مباشرة، وفي أول رسالة… صورة لجهازه التناسلي منتصبا. حين زارت الكاتبة الشابة حائطه على موقع فيسبوك، لم تجد عليه إلا أحاديث الرسول والآيات القرآنية والأدعية والأذكار.
في الغالب، سيكون هذا الرجل ضمن طينة المتهجمين على كل مقال أو كتاب أو ندوة تتطرق لنقاش التراث الإسلامي أو بعض مظاهر التشدد في مجتمعاتنا. صفحته تطفح بالدين (أو مظاهره)، لكنه مجرد شخص وقح حين يتعلق الأمر بمراسلة مع شابة اعتبر أن مجرد دفاعها عن تصور معين للمجتمع، يمنحه الحق في أن يرسل لها صورة لعضوه التناسلي. ماذا كان يتصور أنها ستفعل، مثلا؟ أنها ستتصل به؟ أنها سترد بالإيجاب؟
الكارثة أن هذا الرجل ينسى أنه بفعلته، لا يعبر فقط عن تناقضه ووقاحته واختلاله الفكري والنفسي، بل إنه يختزل كل ذاته ووجوده في ذلك القضيب الذي يبعثه لمن يتصور أنه يصطادهن. هو لا يملك فكرا ولا قلبا ولا وجودا ولا روحا مرحة يغري بها امرأة تعجبه. كنزه الوحيد… قضيب منتصب!
في أمثلة كثيرة أخرى، ينشر شخص، أو تنشر مؤسسة إعلامية، مقالا أو فيديو أو تفاصيل كتاب يتطرق لمواضيع قد تزعج البعض: عن الحياة الجنسية؛ عن الدين؛ عن شخصيات معينة؛ عن تفاصيل نزاعات طائفية…. إلى هنا، فالأمر طبيعي. ليس ضروريا أن نتفق مع المضمون. كما أن من ينشر موضوعا معينا، مهما كانت الصيغة (كتاب، مقال…)، فهو يقدم عبره مجهوده الشخصي والبشري ككاتب أو صحافي أو مبدع أو باحث أو غير ذلك. أي أنه لا يقدم حقيقة مطلقة ولا قرآنا منزلا.
من الطبيعي، بل ومن الصحي أن نناقشه، أن ننتقده، أن نقدم طروحات وتصورات أخرى. أن نقدم حججا وبراهين تاريخية، وعلمية، أو حتى وجهات نظر شخصية. لكن، لماذا نحتاج للعنف اللفظي، الذي لا ترافقه في الغالب أية حجج، كي نعبر عن اختلافنا؟ لماذا نعتمد السب والشتم والإهانة والقدح؟
علما أننا في مثل هذه الحالات، كثيرا ما نكون أمام قدح مركب ومرضي. فأنت حين تختلف مع الشخص وتقدح فيه، ترتكب سلوكا غير أخلاقي وغير مشرف. لكنك، فوق ذلك، حين تسبه بأمه أو أخته أو ابنته (ما علاقة هؤلاء باختلافك معه في الرأي؟) فأنت تترجم فكرة أخرى غير سوية، مفادها أن هؤلاء النسوة لسن إلا أجسادا للجنس، وبالتالي، فلا وجودا مستقلا لهن ولا كيانا ولا أحاسيسا… بحيث أن دورهن وشرفهن في الحياة يختزل في شرف الرجل الذي ينسبن إليه. علما أنهن أساسا لسن طرفا في النقاش وفي اختلافك معه.
هذا الأمر لا يقتصر طبعا على الكتاب أو الصحافيين أو الباحثين، فحتى المعلقون المساهمون في النقاش، قد يتعرضون لنفس العنف اللفظي.
باختصار، نحن هنا أمام أشكال من الجهل تنفعل إزاء كل فكرة تزعجها، لكنها غير قادرة على تطوير معارفها وغير قادرة على المحاججة الناضجة. جهل يغلفه جبن المواقع الاجتماعية عبر استعمال الأسماء المستعارة و/أو الإحساس المزيف بالقدرة على المشاركة في النقاش العمومي؛ مشاركة تقتصر في الحقيقة، حصريا، على العنف والشتم.
ولا حاجة هنا للتنويه بأن ما دون ذلك من انتقاد سليم غير معني بما يناقشه هذا المقال.
الحرة