داود كتّاب
يصف الكاتب الفلسطيني اليساري باسم برهم حركة (فتح) التي احتفلت في الأول من كانون الثاني/يناير بمناسبة انطلاقتها الـ 54 أنها “حركة بسيطة وعبقرية”، موضحا في مقال نشر في صحيفة (الحياة الجديدة) الموالية للسلطة الفلسطينية في اليوم الأخير من عام 2018 أن قادة حركة (فتح) المؤسسين “أرادوا (فتح) أن تكون حركة جامعة وليست حزبا أيديولوجيا عقائديا الأولوية فيه للولاء للفكر الذي تنتمي إليه وليست فلسطين ومسألة تحريرها”.
التركيز على كون (فتح) حركة وليست حزبا كان أحد الأسباب وراء إنهاء مفاجئ لمقابلة حصرية كنت أجريها مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو. فقد سألته آنذاك إن كانت (فتح) ستتحول إلى حزب؟ غضب (أبو عمار) وقدم لي محاضرة حول تعددية الحركة وكيف أنها حركة كل الشعب الفلسطيني وأن قوته في تعدديتها. المقابلة كانت بحضور مروان البرغوثي، وجبريل الرجوب، وسمير صبيحات وجرت في تونس قبيل عودة القيادة الفلسطينية إلى الضفة الغربية.
منذ ذلك الوقت أثبتت الحركة، وبعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، تعدديتها وتطبيقها لمبادئ الديمقراطية؛ إلا أنه ومع مرور السنوات ومع عدم القدرة على الوصول إلى خواتيم عملية السلام وإنهاء الاحتلال، وخاصة بعد الانقسام المؤلم في قطاع غزة، تراجعت مبادئ التعددية وحلت مكانها عقلية الحزب الحاكم.
فقد كانت قمة الديمقراطية إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي وفرت الغطاء الشرعي للرئيسين ياسر عرفات ومحمود عباس، كما وفرت بعض الشرعنة لحركة (حماس) في الانتخابات المفصلية عام 2006 والتي طبق بعدها الرئيس عباس الديمقراطية بنقل سلس للحكم من خلال دعوته رئيس كتلة التغيير والإصلاح الحمساوية اسماعيل هنية إلى تأليف الحكومة الفلسطينية العاشرة.
إلا أن تلك الخطوة الديمقراطية تم الرد عليها بخطوات غير ديمقراطية، إذ انقلب خلالها الحمساويون على الأسس التي أوصلتهم إلى رئاسة الوزراء بعد عام ونصف العام، وتم طرد الحرس الوطني الفلسطيني وقوات الأمن الموالية للرئيس عباس من قطاع غزة، ومنذ ذلك الوقت تفردت (حماس) بالسلطة في غزة.
ورغم المحاولات المتكررة لعقد اتفاقيات مصالحة برعاية سعودية حينا ومصرية أحيانا أخرى إلا أن الوضع بقي على حاله، إلى أن أعلن قرار المحكمة الدستورية الفلسطينية في أوائل كانون الأول/ديسمبر الماضي بحلّ المجلس التشريعي الذي أوصل (حماس) إلى الحكم والدعوة لانتخابات تشريعية (دون رئاسية) في فترة أقصاها ستة أشهر.
طبعا أغضب القرار حركة (حماس)، التي اعتبرته غير قانوني ومضرا بالوحدة الوطنية. وقد ردت (حماس) على ذلك القرار بمنع إقامة احتفالات في غزة بمناسبة انطلاق حركة (فتح) وتم اعتقال العديد من قيادات (فتح) المحليين لضمان عدم إحياء أحدهم للاحتفالات. اعتبر مؤيدو (فتح) في غزة والضفة الغربية ووسائل الإعلام الموالية للرئيس عباس من صحف وإذاعات وتلفزيون قرار (حماس) في غزة “غير ديمقراطي”.
لا شك أن ما يحدث في فلسطين من كلا طرفي النزاع “الحمساوي ـ الفتحاوي” “غير ديمقراطي”، ولو بنسب متفاوتة، لكن المهم هو كيفية الخروج من هذا المأزق الذي يترسخ كل يوم بحيث أصبح الانقسام مفيدا لتيارات موجودة في أوساط طرفي النزاع، وتشكلت مجموعات لها مصالح ذاتية من كلا الطرفين، ولا ترغب بأن يتم الخروج من الوضع الحالي والعودة إلى نظام ديمقراطي تعددي يكون فيه صندوق الانتخابات هو الفيصل.
قد تكون حركة (فتح) “بسيطة وعبقرية” عند تأسيسها وحتى في السنوات الأولى للحكم الذاتي في فلسطين، إلا أنها تراجعت كثيرا منذ الانقسام وأصبح من الصعب الادعاء بوجود تعددية في أي من قيادات حركة “فتح” أو منظمة التحرير، التي كان وجود بعض أحزاب المعارضة ذات التأثير في قيادتها دائم حتى في الأوقات الصعبة.
إن وجود صعوبات كبيرة في طريق النضال الفلسطيني يتطلب الابتعاد عن أي أمر يضعف الجانب الفلسطيني ويقلل من وحدته وتركيز كافة الجهود على إنهاء الاحتلال.
يتطلب الخروج من المأزق الحالي التراجع عن الانفراد في القرارات وزيادة وتيرة التحرك الجدي نحو الوحدة الوطنية والتعاون مع كافة الأطراف المؤيدة للوحدة من فصائل ومستقلين إضافة إلى الامتناع عن اتخاذ قرارات مصيرية بشكل أحادي، كما لا بد من توصل الجميع إلى قناعة حقيقية بأن الانتخابات التشريعية والرئاسية ولمؤسسات منظمة التحرير أصبحت ضرورة يجب العمل عليها لضمان انتقال حقيقي للجيل الشاب، الذي يئس من العمل السياسي الفلسطيني ومن طرفي النزاع المتشبثين بالسلطة والموافقين ضمنا على بقاء الانقسام.
تعتبر الديمقراطية والتعددية أساس الوحدة الوطنية وإن كانت حركة “فتح” ترغب في الاستمرار في قيادة الشعب الفلسطيني فإنها بحاجة إلى مراجعة جدية لقراراتها والعودة إلى “عبقريتها” المعتمدة على التعددية والمشاركة بدلا من التفرد وسياسات الحزب الواحد التي أثبت فشلها.
الحرة