بكر عويضة
هل يَضيع عقل شخصٍ فجأة، بلا مقدمات، لو أن بعض المحيطين بالمعني أدرك معنى ما ترسل من إشارات، لفهموا أنها تشكل أعراضَ مصيبة على وشك الوقوع؟ وهل بين الناس مَن يُضيِّع العقل، استخفافاً بأمر ما بعد آخر، من غير إدراك واقع أن الكثير من مصائب البشر إنما تبدأ مزحة قبل أن تنتهي مأساة؟ أرجئ إجابة التساؤلين، كي أبدأ بما حصل معي مساء السبت الماضي، عندما اتصل صديق فاجأني بالقول، غاضباً، إنه بات شبه متأكد من ضياع العقل وفقدان الذاكرة. محاولاً أن أهدئ روع صاحبي، استفسرت عن السبب، فأوضح أنه بعدما استخدم بطاقة المصرف ثلاث مرات متتالية، خلال ربع ساعة، بعد ظهر ذلك اليوم، فوجئ بنسيان الرقم السري عندما أراد دفع ثمن بضع حاجيات اشتراها في مخزن مواد غذائية، وإذ لم يفلح في تذكر الرقم الصحيح مرتين، وفشل في الثالثة قيل له، آلياً عبر شاشة جهاز الدفع، إن بطاقته ملغاة، وعليه أن يراجع البنك، فرجع إلى البيت حانقاً على نفسه ومنها. ثم إنني ما إن حاولت التخفيف عليه بأن ذلك النوع من النسيان يقع للكثيرين، ومنهم حضرتي، حتى انفجر بغضب أشد، صائحاً أننا جميعاً نهوّن كل شيء خطير، بالزعم أنه ليس بالأمر المفجع، وأن الكل معرضٌ له. من جانبي، لذت بالصمت، إذ وجدتني أتفق معه، فلم أعترض، لأن كثيراً مما يجري حولنا، على الصعيدين العام والخاص، يصدق عليه تشخيص الصديق، ولو أنه قسى على نفسه بعض الشيء في النقد الذاتي بما يخص تراجع ذاكرته.
بعد المحادثة، التفتُ إلى لوح «الآيباد» كي ألم بما فات عليَّ من أنباء، ثم أقرأ مقالات مَن أتابع مِن الكتّاب والكاتبات، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الآراء. بينما أتصفح مواقع عدة، صدمني على موقع جريدة «الشرق الأوسط» عنوان زعق قائلاً: «جرائم قتل الأبناء في مصر: حوادث متكررة تهز الرأي العام». بعدما فرغت من قراءة تقرير الزميل عبد الفتاح فرج، الثري بمعلومات مهمة، والمفجع بما عرض من مآسٍ، آخرها فاجعة إقدام طبيب لم يتعد العقد الرابع من العمر على ذبح زوجته وأطفاله الثلاثة، وجدتني أتساءل: كيف يجرؤ أي إنسان، في جهات الأرض الأربع، على هكذا فعل شنيع؟ إنما بشكل أوضح، صدع السؤال: كيف لطبيب مهمته إنقاذ حياة المريض، أن ينهي حيوات أقرب الناس إليه بهذا الشكل الفظيع؟
ثمة أسئلة يستحيل، أحياناً، أن تجد لها الجواب الشافي. كدت أتصل بالصديق الغاضب لنسيانه المفاجئ رقم بطاقته المصرفية، فأقرأ له ما قرأت، بغرض تبيان الفرق بين غضب مشروع، وبين جنون الغضب عندما يضيع معه اتزان الشخص العاقل، فيُضيِّع توازن عقل راجح يتحكم بحنق النفس البشرية، وما تثيره من الزوابع.
ماذا، إذاً، عن ضياع العقل الجماعي؟ يحصل ذلك بإرادة يُقال إنها تعبّر عما يُدعى الغالبية العظمى للناس، وتُسمى في القاموس السياسي صندوق الاقتراع. إذ عبر ما يطلق عليه قوم شكسبير «بوكس» الانتخابات، تقع كوارث ليس أمام المجتمع سوى التعامل مع نتائجها. في الأمس البعيد، نسبياً، أتى للحكم، كما تعرفون، عبر أوراق وُضعت في ذلك الصندوق، أدولف هتلر، في ألمانيا، وبينيتو موسوليني، في إيطاليا، ثم تبعهما طواغيت كثر بأماكن شتى. وفي أمس قريب جداً، عبر الصندوق ذاته، قاد ديفيد كاميرون، بريطانيا، إلى قاع بئر «بريكست» غير المعروف له قرار. فلا دعاة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي متفقون على برنامج واحد، ولا أنصار البقاء متفاهمون على منهج موّحد، أما الشعب فأكثرهم لا يعلمون. وإذ يُقال إن 54 في المائة من البريطانيين اقترعوا مع «بريكست»، يجيب المعترضون أن أولئك اكتشفوا الآن أنهم مُضللون، والمطلوب استفتاء ثان.
حقاً، كم سهل أن يبدأ مهوسون بفكرة ما، هي غالباً أقرب إلى المزحة، وربما الكذبة – والأسوأ منهما تطرف فكرٍ ما – الانغماس في هوسهم، حتى الاقتناع بما أوهموا أنفسهم به، وكم صعب التخلص مما أنتج جنونهم من حرائق سوف تمتد ألسنتها لتطال أصابع أطراف أسهمت في إشعالها. خلاصات مآسٍ كثيرة تثبت أنه ليس من عقل يضيع فجأة، بلا أسباب، وبلا مقدمات، سواء فيما يخص الفرد، أو المجتمع. بكل تأكيد، يظل ضياع العقل الجماعي هو الأخطر.
بعد المحادثة، التفتُ إلى لوح «الآيباد» كي ألم بما فات عليَّ من أنباء، ثم أقرأ مقالات مَن أتابع مِن الكتّاب والكاتبات، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الآراء. بينما أتصفح مواقع عدة، صدمني على موقع جريدة «الشرق الأوسط» عنوان زعق قائلاً: «جرائم قتل الأبناء في مصر: حوادث متكررة تهز الرأي العام». بعدما فرغت من قراءة تقرير الزميل عبد الفتاح فرج، الثري بمعلومات مهمة، والمفجع بما عرض من مآسٍ، آخرها فاجعة إقدام طبيب لم يتعد العقد الرابع من العمر على ذبح زوجته وأطفاله الثلاثة، وجدتني أتساءل: كيف يجرؤ أي إنسان، في جهات الأرض الأربع، على هكذا فعل شنيع؟ إنما بشكل أوضح، صدع السؤال: كيف لطبيب مهمته إنقاذ حياة المريض، أن ينهي حيوات أقرب الناس إليه بهذا الشكل الفظيع؟
ثمة أسئلة يستحيل، أحياناً، أن تجد لها الجواب الشافي. كدت أتصل بالصديق الغاضب لنسيانه المفاجئ رقم بطاقته المصرفية، فأقرأ له ما قرأت، بغرض تبيان الفرق بين غضب مشروع، وبين جنون الغضب عندما يضيع معه اتزان الشخص العاقل، فيُضيِّع توازن عقل راجح يتحكم بحنق النفس البشرية، وما تثيره من الزوابع.
ماذا، إذاً، عن ضياع العقل الجماعي؟ يحصل ذلك بإرادة يُقال إنها تعبّر عما يُدعى الغالبية العظمى للناس، وتُسمى في القاموس السياسي صندوق الاقتراع. إذ عبر ما يطلق عليه قوم شكسبير «بوكس» الانتخابات، تقع كوارث ليس أمام المجتمع سوى التعامل مع نتائجها. في الأمس البعيد، نسبياً، أتى للحكم، كما تعرفون، عبر أوراق وُضعت في ذلك الصندوق، أدولف هتلر، في ألمانيا، وبينيتو موسوليني، في إيطاليا، ثم تبعهما طواغيت كثر بأماكن شتى. وفي أمس قريب جداً، عبر الصندوق ذاته، قاد ديفيد كاميرون، بريطانيا، إلى قاع بئر «بريكست» غير المعروف له قرار. فلا دعاة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي متفقون على برنامج واحد، ولا أنصار البقاء متفاهمون على منهج موّحد، أما الشعب فأكثرهم لا يعلمون. وإذ يُقال إن 54 في المائة من البريطانيين اقترعوا مع «بريكست»، يجيب المعترضون أن أولئك اكتشفوا الآن أنهم مُضللون، والمطلوب استفتاء ثان.
حقاً، كم سهل أن يبدأ مهوسون بفكرة ما، هي غالباً أقرب إلى المزحة، وربما الكذبة – والأسوأ منهما تطرف فكرٍ ما – الانغماس في هوسهم، حتى الاقتناع بما أوهموا أنفسهم به، وكم صعب التخلص مما أنتج جنونهم من حرائق سوف تمتد ألسنتها لتطال أصابع أطراف أسهمت في إشعالها. خلاصات مآسٍ كثيرة تثبت أنه ليس من عقل يضيع فجأة، بلا أسباب، وبلا مقدمات، سواء فيما يخص الفرد، أو المجتمع. بكل تأكيد، يظل ضياع العقل الجماعي هو الأخطر.
الشرق الأوسط