أقلام مختارة

لسعة العقرب

دارا عبدالله

دارا عبدالله

تنال لسعة العقرب من طراوة من يقابلها. الخطاف المعقوف الباث للسم، والصادر من الظهر، ليست أداة الصيد الأساسية لدى العقرب. للعقرب مشبكان يدويان كفيلان بالفتك. عيون العقرب تستقر في ظهره. يمشي الكائن الأعمى تائها، وصلابة المادة لحظة الصدم أو المشي، تقرر إمكانية إزهاق السم. العقرب لا يقتل الأرض الصلبة مثلا. كل طري حي يُقتل، كل طري مخيف وعدو.

تُستدعى العقارب في قيظ شهر آب/آغسطس، مساء، بسكب الماء الساخن في ثقوب الأرض الواضحة، في أرياف المدن الصحراوية، فيهرع العقرب مذعورا للخارج، قبل أن تنال منه عصى الطفل، فتردي “الكائن الغدار”، كما يوصف، صريعا على الفور.

تُشعل دائرة من نار حول من ينجو من هذه العقارب، فيصمت العقرب حائرا، ويغرس خطافه في ظهره، جاعلا جسده يتجرع سمه، لينتشر السم في مصدر إنتاجه.

مساحة بيت جدي في بلدة اليعربية ـ تل كوجر، تبلغ 400 متر مربع. بلدة تقع في أقصى الشمال الشرقي السوري، وهي آخر تجمع سكني على الحدود السورية ـ العراقية. ثمة شاخصة موجودة على الشريط الحدودي مباشرة، على وجهها المطل على سوريا صورة لحافظ الأسد، وعلى وجهها المطل على العراق صورة لصدام حسين.

جدي صالح وجدتي خنساء صنعا عددا كبيرا من الأطفال، أخوالي وخالاتي. تبكي جدتي خنساء يوميا بصمت من ظلم الجد؛ تضع وشاحها على فمها، وتهطل عيونها بصمت. فقر مدقع بسبب تبذير الجد، لكل الأموال القادمة من زراعة الأرض وحليب الماعز وبيوض الدجاج، على ملذاته اللانهائية. الجد صالح، رجل دين ملحد، لم أره يصلي مرة واحدة في حياته، يفطر في رمضان، ويفتي بشؤون الناس.

في تلك المساحة الكبيرة في فناء البيت، تستيقظ خنساء كل صباح، لتقوم بأعمال المنزل. تغسل ثياب العشرات على يديها، وتعتني بنا وبالدجاجات وبالمعزاة الوحيدة. مع مرور الوقت، ترهل جسد خنساء، وتعبت قدميها. في أسفل كاحلها، تموت طبقة الجلد الأخيرة بالمطلق، وتقرَّنت. تصلبت وتسمكت وتشققت كأرض صحراوية عطشى، كالبيئة التي تنشأ وتكبر وتتكاثر فيها العقارب. تستطيع أن تغرس الإبرة في باطن قدمها القاسي كقطعة إسمنت، دون أن تشعر بالألم. التعب والبؤس قتلا النهايات الحسية العصبية الأخيرة في قدمها. صارت لا تشعر لا بالبرد ولا بالحر، لا بالألم ولا باللذة.

 

في قيظ آب، عام 1999، كانت خنساء نائمة على قطعة قماش خفيفة. يقترب العقرب الأصفر الكث من جسدها، ويصبح سهمه مواجها لباطن قدمها المتقرن. يمشي العقرب المخدوع على الصبة الجلدية المكثفة، معتقدا أنه امتداد للأرض والموت والعدم. فقدَ قدم جدتي كل حيوية بشرية، وطراوة إنسانية لازمة لإحداث اللسعة المسمومة. الطبقة الميّتة أبقتها حيّة. ما تموّت من جلدها، صار رصيدا في حياتها.

أنقذها بؤسها.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق