عريب الرنتاوي
الأنباء من الدوحة حول “تقدم كبير” في المفاوضات بين الأميركيين وطالبان، استأثرت باهتمام سياسي وإعلامي لافت من قبل عواصم المنطقة والعالم. مناخات التفاؤل تهيمن على الخارجية الأميركية وفريق الموفد زلماي خليل زاد، وثمة جولة قادمة من المفاوضات، ينتظر أن تحرز المزيد من التقدم، وصولا لاتفاق نهائي بين الجانبين، يكفل لواشنطن سحب قواتها من أفغانستان في غضون عام ونصف العام من التهدئة ووقف إطلاق النار، في حين تتعهد الحركة السلفية المتشددة، بعدم توفير “مأوي” لتنظيمي “القاعدة” و”داعش”، على أن تجري في مسار مواز لاحق، مفاوضات بين طالبان والحكومة المحلية لإعادة بناء نظام سياسي أفغاني جديد، قابل للحياة.
حتى الآن، تبدو “الحكاية” طبيعية، وتحدث باستمرار في دول الأزمات المفتوحة، لا سيما حين تكون واشنطن طرفا فيها. لولا أن أحد طرفي التفاوض والاتفاق، هو تنظيم إرهابي، مصنف كذلك، وبهذه الصفة، في مختلف القوائم السوداء الأميركية والغربية والأممية، ولقد قاتلته واشنطن طوال ما يقرب العقدين من الزمان، وهو ذاته التنظيم الذي آثر المجازفة باستدعاء الجيوش الأميركية في حرب ضروس، أكلت الأخضر واليابس في بلاده، على أن يقبل بطرد القاعدة من أرضه أو تسليم زعيمها أسامة بن لادن للعدالة الدولية.
والأهم من كل هذا وذاك، أن هذا التنظيم لم يتغير ولم يتبدل، ولم تصدر عنه أية إشارات توحي بتخليه عن منظومته “العقدية” السلفية ـ الجهادية، ولا عن هدفه النهائي بإنشاء “خلافة على منهج النبوة”، تماما مثلما ظل يردد تنظيم “داعش” طوال سنوات وحتى يومنا هذا. صحيح أن التنظيم يسعى في حصر ميدان نشاطه داخل حدود بلاده، إلا إن “إشعاعه” الفكري، طاول منذ سنوات دولا مجاورة (باكستان)، وتخطاها كذلك.
والتنظيم لم يتعهد بإلقاء السلاح أو تسلميه، ولا بالانضباط تحت سقف “الدولة” التي تسعى واشنطن في إعادة بنائها دون نجاحات تذكر في أفغانستان، على الرغم من مرور أزيد من ثمانية عشر عاما على غزوها للبلاد ونجاحها في فرض سيطرتها على مساحات شاسعة منها. طالبان لم تتغير، لا في الشكل ولا في المضمون. من تغير وتبدل، هو واشنطن بإداراتها وأولوياتها، ومقاربتها الجديد حيال الحركة الجهادية، ليست إلا تعبيرا عن تفشي “اليأس” من إمكانية تحقيق مرامي حربها المكلفة جدا في تلك البلاد، هذه هي الحقيقة التي لا مراء فيها ولا جدال.
معظم ردود الأفعال المعترضة على محادثات الدوحة (ومن قبلها أبوظبي)، ذهبت صوب التحذير من مغبة عودة طالبان للسيطرة على أفغانستان، وتحولها ثانية إلى ملاذ آمن للإرهاب، أو “وطن شرعي ومعترف به” للإرهاب العالمي. والحقيقة أن طالبان نجحت في انتزاع سيطرتها على مساحات واسعة، جنوبي البلاد وشمالها، حتى بوجود القوات الأميركية ومن يدعمها من قوات “التحالف الدولي”. طالبان تسعى لاختصار طريقها للهيمنة على البلاد والتفرد بحكمها، ومفاوضاتها مع واشنطن، تندرج في هذا السياق، وأمر توليها السلطة في البلاد، ربما بأقرب مما تتوقع أكثر الدوائر تشاؤما، ليس سوى مسألة وقت.
لكن أحدا من المعلقين أو الذين تناول مفاوضات الدوحة واتفاقها، لم يطرح السؤال: إن كان من الجائز إجراء مفاوضات مع تنظيم إرهابي في أفغانستان، أراق كثير من دماء الأميركيين، فلماذا لا يصح فعل شيء مماثل، مع تنظيمات أقل دموية وتشددا من طالبان، تنشط في ساحات أخرى، كحزب الله في لبنان وحركة حماس (والجهاد وفصائل أخرى) في فلسطين؟
وإذا كانت واشنطن قادرة على أن “تغفر” عمّن قتل أميركيين، عسكريين ومدنيين (دع عنك عشرات ألوف الأفغان)، فما السبب الذي يجعلها غير قادرة على “الغفران” عندما يتعلق الأمر بتنظيمات فعلت ما دون ذلك بكثير، وأظهرت من الاستعداد للانخراط في عمليات سياسية محلية أو “عابرة للحدود” ما لم تظهره طالبان طوال تاريخها؟
من يبحث عن إجابة على هذا التساؤلات، سيجدها في مكانين اثنين: الأول؛ أن لا وجود عسكريا مباشرا في لبنان وفلسطين، ولا تواجه القوات الأميركية حرب استنزاف ضاغطة ومكلفة هنا، كفيلة بإطلاق ديناميات وتفاعلات في الداخل الأميركي، بخلاف الحال في أفغانستان، حيث تحول الوجود العسكري الأميركي هناك، بقاءه أو انسحابه، إلى عنوان رئيس من عناوين المعارك الانتخابية الأميركية في السنوات الأخيرة.
والثاني؛ أن التنظيمات المذكورة (حماس وحزب الله) تستهدف بأعمالها القتالية، حين تقع وغالبا بفواصل زمنية متباعدة، أهدافا إسرائيلية. يبدو أن واشنطن تمتلك القدرة على التسامح حين يتعلق الأمر بحياة جنودها ومواطنيها، ولكنها تفتقر لهذه القدرة حين يتصل الأمر بحياة جنود أو مدنيين إسرائيليين. يبدو أن “نظرية الأمن الإسرائيلية” عند بعض الساسة وصناع القرار الأميركيين، تتفوق في بعض أو كثير من الأحيان، على اعتبارات الأمن القومي الأميركي.
وكان لافتا أن النقاش الأخير في الكونغرس حول مقترح قانون بـ”إبطاء” الانسحاب الأميركي من سوريا وأفغانستان، قد استند في أحد أقوى مبرراته، أو “أسبابه الموجبة” إلى ضرورة الإصغاء لنصائح وتوصيات “الحليف الإسرائيلي” كما ورد على لسان زعيم الأغلبية الجمهورية ميتش مكونيل، في مرافعته دفاعا عن التعديل الذي اقترحه.
والحقيقة أن المقاربة الأميركية المنفتحة على طالبان، والمتساهلة مع احتمال تسلم هذه التنظيم الإرهابي لمقاليد السلطة في أفغانستان، مقابل المواقف الصارمة من تنظيمات أخرى مصنفة إرهابية، ليست الإشارة الوحيدة على ما تتسم السياسة الأميركية في الحرب على الإرهاب من “معايير مزدوجة”؛ ففي سنوات الأزمة السورية أيضا أعطت الإدارة الأميركية إشارات مماثلة، إذ مقابل الحرب الشاملة على “داعش”، رأينا واشنطن تمارس ضغطا على موسكو وحلفائها لتعطيل الحرب على “النصرة” و”القاعدة” في إدلب وجوارها وإرجائها إلى آماد مفتوحة، لأسباب إنسانية، لم يجر احترامها تماما في العمليات الحربية في مناطق شمال شرقي الفرات، بشهادة التقارير الدولية التي تحدث عن “أرض محروقة” وضحايا من المدنيين بأعداد هائلة.
لكأن رزنامة الحرب على الإرهاب وأولوياتها، يتعين أن تخضع لميزان الربح والخسارة، وأن تندرج في سياقات “الحرب البادرة” التي تدور رحاها بين موسكو وواشنطن، و”الحرب الساخنة” المندلعة بين واشنطن وطهران.
الحرة