في الطبيعة البشرية، غالباً ما يعلو ضجيج الأنا الداخلي ال ( Ego ) ليطغى على باقي أصوات و روافد المعرفة بمفهومها الواسع، ليحبس صاحبه في عالم افتراضي ضيق وزائف من الأفكار والقناعات الشخصية، أخطر ما فيها هو أنها تبدو لصاحبها دائماً ( أدق ) و ( أفضل ) من معارف وقناعات الآخرين.
جميعنا نعاني من هذا بنسب متفاوته … أنا مثلاً أحاول أن أدرِّب نفسي على خفض صوت الأنا قدر استطاعتي، لكي أُبقي روافد المعرفة ونوافذها مفتوحة على المدى الأقصى الذي تتحمله مداركي، أنجح حيناً، وأفشل في أحيان أخرى، الشيىء المهم عندي هو إدراكي لهذا العيب الذي ابتلينا به جميعاً – دون استثناء – و إن بدرجات متفاوته .. ولكن أَسوأُنا على الإطلاق هم أصحاب اليقين، فهؤلاء، لا يتطرق الشك إليهم أبداً، لأنهم أوصدوا الأبواب دونه، وغطسوا في صمغ الطمأنينة واليقين، وكما نعلم جميعاً فإن الشك هو أحد أهم أعمدة المعرفة ورافعها الأساسي، وهذا ما يفسر سبب تخلف ( أصحاب اليقين ) في كل زمان و كل مكان.
واضح أيضاً بأن التقدّم بالسن ليس شرطاً للنضج .. والشواهد كثيرة، صحيح أنه يتيح للإنسان مراكمة الخبرات والمعارف، لكن العبرة تكمن بطريقة معالجة دماغك لهذه المعارف التي ستصبح فيما بعد ناظماً للشخصية ككل، هذه العملية بغاية التعقيد بحيث يكون التأثير الجيني والهرموني حاسماً فيها، فالدماغ الذي يحتوي على مليارات العصبونات التي تتبادل الإشارات الكيميائية والكهروعصبية بسرعات مذهلة، ليتشكّل الوعي و الإدراك بشكله العام في النهاية بصورة تختلف من شخص لآخر، بحيث يستحيل أن تجد شخصان يتطابقان بالتفكير بشكل كامل.
و نتيجة لهذا الأمر، فإنك تجد كل شخص يُطِلُّ عليك وعلى عالمك من نافذته الخاصة التي أتاحها له وعيه، فقد تتسع لتحتويك أو قد تضيق لتُكَوِّن لديه صورة مشوشة وغير دقيقة عنك، فتبتسم وتتابع حياتك دون أن تحتج، لإدراكك الكامل بأن لاذنب له بهذا، ولا سبيل إلى تصويب الرؤية لديه بسبب ضيق ” نافذته “، يحصل هذا بشكل شائع بين الزملاء الذين تجمعهم الصدفة أثناء الدراسة في المراحل العمرية المبكرة، وشيئاً فشيئاً يختفي الإنسجام والتناغم بينهم، ويصبحون مع مرور الوقت غرباء يتحاشون اللقاء بسبب الإختلافات الكمية والنوعية الهائلة التي تُشكِّل شخصياتهم التي ترتكز على سعة وعيهم، فبعضهم غاص عميقاً في لُجّة المعرفة، والبعض الآخر اكتفى بملامسة السطوح، طافياً أو متزلجاً فوق القشور.
نقطة أخرى هامة جديرة بالذكر، فالفتاة في عامها العاشر تدرك عالم المرأة و ثراءه وتفاصيله المدهشة، وتتفهم تقلبات مزاجها، اكثر من رجل تجاوز عقده الخامس، وبالمقابل فإن الفتى في سن الرابعة عشر، يدرك طقوس الذكر، وعنفه و مجونه وجنونه، أكثر من امرأة في سن الخمسين، يحصل هذا بكل بساطة لأن كِلا المخلوقان يطلّان على عالميهما المختلفين بدهشة وبفضول، من خارج أسوار الهرمون الذي يتباين بين الجنسين حدّ التنافر في معظم الأحيان.
هذا يقودك إلى ضرورة إدراك أنك لست مركز هذا الكون، و عليك الكفّ عن اعتبار نفسك مسطرة للقياس، فتجاربك الشخصية، وخبراتك، وقناعاتك، هي عيدان أسنان خاصة بك، فتوقف عن محاولات إقحامها في أفواه الآخرين.
بالرغم من قناعتي و إدراكي لكل ما سبق، ورغم محاولاتي المتكررة للإحتواء والمرونة، فما زلت أجد من يرغمني على اللّطم، وعلى شق الثوب غيظاً، … أيضاً !.