خيرالله خيرالله
بالنسبة إلى معظم اللبنانيين، من كلّ الطوائف والمناطق، بقي البطريرك نصرالله صفير الذي خلف في العام 1986 البطريرك خريش على رأس الكنسية المارونية، سيّد بكركي. كان أكثر بكثير من بطريرك للموارنة. كان لكلّ لبنان. كان ولا يزال على الرغم من وضعه الصحّي الذي يزداد سوءا، مع اقترابه من سنّ المئة عام، خشبة الخلاص. إنّه خشبة الخلاص التي يفتقدها لبنان في هذه الأيّام السود.
عمر البطريرك صفير من عمر لبنان الكبير الذي أعلن في العام 1920 بناء على رغبة البطريرك الماروني إلياس الحويّك الذي شجع فرنسا على ضم الأقضية الأربعة والواجهة الساحلية إلى لبنان كي لا يبقى مجرد مساحة صغيرة تقتصر على جبل لبنان المسيحي – الدرزي.
كان البطريرك صفير، الذي ولد في مثل هذه الأيّام من العام 1920، رجل علم وانفتاح قبل أيّ شيء آخر. لكنّه كان أيضا رجلا مبدئيا يعرف معنى الهيمنة السورية أو الإيرانية على لبنان. لذلك، سعى إلى توفير الغطاء المسيحي المطلوب لاتفاق الطائف في العام 1989 بعيدا عن الحسابات الصغيرة ذات الطابع الشخصي لهذه الشخصية المسيحية أو تلك، وبعيدا خصوصا عن الجهل في التوازنات الإقليمية والدولية.
كانت البطريركية المارونية في أساس فكرة لبنان الكبير الغني بتنوعّه البعيد كل البعد عن فكرة حلف الأقليات وعن التقوقع. لم يكن البطريرك صفير ليغطي اتفاق الطائف لولا إدراكه أنّ لبنان تغيّر وأن توازنات جديدة ولدت من رحم الحرب التي امتدت بين 1975 و1988 والتي استمرت في 1989 و1990 على شكل مواجهة مسيحية – مسيحية بعدما أصبح العماد ميشال عون رئيسا لحكومة مؤقتة وأقام في قصر بعبدا.
كان اتفاق الطائف المخرج الوحيد بالنسبة إلى لبنان بعد كلّ الخسائر التي أصابت المسيحيين والتي نجمت عن تطورات داخلية وإقليمية في ظلّ تجاهل أميركي وأوروبي لهم. تجلّى هذا التجاهل في رفض الاستجابة للأوهام التي تحكّمت بعقول زعاماتهم منذ ما قبل اندلاع شرارة حرب السنتين في 1975 و1976 وصولا إلى الاجتياح الإسرائيلي في 1982 وحرب الجبل في 1983 و1984 وما أدت إليه من ضرب للعيش المشترك المسيحي – الدرزي.
تميّز البطريرك صفير، الذي عايش البطريرك بولس بطرس معوشي وعمل في ظلّه، بأنّه رجل دين يعرف في السياسة العميقة ودهاليزها. كان يعرف قيمة الكلمة وأن يكون البطريرك المقيم في بكركي قليل الكلام. كان لكلّ كلمة تخرج من فمه وزنها. كان يعرف تماما من مع لبنان ومن ضد لبنان. من لديه أطماع في لبنان ومن يمكن أن يخدم لبنان. كان يعرف معنى التهوّر. الثابت أنّه تعلّم الكثير من البطريرك المعوشي الذي وقف في العام 1958 في مواجهة الرئيس كميل شمعون. كان شمعون رجلا استثنائيا عرف كيف يبني. كان يمتلك فكرا طليعيا في مجال إقامة البنية التحتية التي يحتاج إليها لبنان. لكن ذكاءه الحاد توقف عند معرفة كيف المحافظة على التوازن المسيحي – الإسلامي في لبنان في وقت كان فيه نجم جمال عبدالناصر في صعود. لعب البطريرك المعوشي وقتذاك دوره في المحافظة على التوازن في البلد بعدما أصيب زعماء مسلمون كثيرون بالعمى السياسي بسبب الظاهرة الناصرية وبعدما بالغ كميل شمعون في تهورّه، خصوصا عندما رفض القول صراحة إنّه لا يريد تجديد ولايته الرئاسية…
انطوى كلّ فعل قام به البطريرك صفير، على خدمة لبنان السيّد الحرّ المستقل بمسيحييه ومسلميه. لذلك كان موضع شبه إجماع في تصديه الباكر للاحتلال السوري ولسلاح “حزب الله” وقبل ذلك للسلاح الفلسطيني. كان يعرف في العمق ما الذي يريده النظام السوري، خصوصا منذ اغتيال الرئيس رينيه معوّض في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1989. كان ذلك اغتيالا للطائف بصفة كونه اتفاقا يحظى بغطاءين عربي ودولي.
كان يعرف أيضا معنى الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في أيّار – مايو من العام 2000 ولماذا كانت تلك الرغبة السورية في عرقلة حصول هذا الانسحاب. هذا ما يفسّر مسارعته إلى الدعوة إلى الانسحاب العسكري السوري من لبنان كاسرا بذلك حاجز الخوف عند اللبنانيين، وهو حاجز لم يستطع كسره عندما دعا إلى مقاطعة انتخابات العام 1992، متجاهلا وقتذاك أن ليس في استطاعته الاعتماد على أكثرية إسلامية تسير معه في هذا الاتجاه وتخوض معركة المقاطعة.
استطاع رجل متقدّم في السنّ، سلاحه الوحيد الكلمة الصادقة وصلابة الموقف، الوقوف في وجه النظام السوري ومخططاته. هذا ما يفسّر ذلك التفاهم الذي قام بينه وبين رفيق الحريري، كما يفسّر تلك الشجاعة التي لا نظير لها في إتمام المصالحة المسيحية – الدرزية في صيف العام 2001، وهي مصالحة عرّضت حياته وحياة شريكه فيها، الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، للخطر.
لم يأبه للمخاطر. كان عملاقا بالفعل، خصوصا عندما وقف وراء لقاء قرنة شهوان الذي أسّس للاستقلال الثاني في 2005. وقف قبل ذلك خلف لقاء مار روكز الذي حقق انسحابا إسرائيليا سلميا من جزين في 1999 ودخول الجيش اللبناني إليها في وقت كان النظام السوري يسعى إلى عرقلة هذا الانسحاب من أجل بقاء البلدة رهينة ومن أجل ألّا ينسحب الإسرائيلي من الجنوب كلّه لاحقا.
إنه رجل الاستقلال غير الناجز الذي عرف “حزب الله” كيف يقضي عليه بعدما ملأ الفراغ الناجم عن الانسحاب العسكري والأمني السوري من لبنان. لعب الاستقلال غير الناجز وخيبات ما بعد الانسحاب السوري، إضافة إلى عوامل أخرى، دورا في استبدال البطريرك صفير في العام 2011 في مرحلة بدا فيها الرجل محبطا جراء ما حل بلبنان.
عبارات قصيرة مفعمة بالمعاني العميقة تقول الكثير عن البطريرك صفير. من بين هذه العبارات: “قلنا ما قلناه”. و”أين قصر المهاجرين؟”. “ما الذي تغيّر لأذهب إلى دمشق؟”. “ليس لسوريا في لبنان حلفاء، بل لسوريا في لبنان عملاء”. “لن أذهب (إلى دمشق) إلّا ورعيّتي معي”. الأكيد أنّه لو أطلق النظام السوري اللبنانيين الموجودين في سجونه، لكان البطريرك ذهب إلى دمشق وفتح صفحة جديدة مع النظام السوري. كان فعل ذلك من أجل لبنان ومن أجل اللبنانيين وليس من أجل صورة مع حافظ الأسد أو مع بشّار الأسد يسوقانها في الغرب.
لكلّ عبارة من هذه العبارات معنى خاص بها. لكنّها تعني قبل كلّ شيء أنّه لا يزال في لبنان رجال يرفضون الرضوخ للسلطة والمال والجاه. رجال يمتلكون ضميرا حيّا يقف في وجه الظلم والتهوّر والتطرّف قبل أيّ شيء آخر.
بقي البطريرك صفير، الذي تمكن من اللغة العربية كما لم يتمكن منها سوى قليلين، وفيّا لكل المبادئ التي نادى بها. حافظ على مقام البطريركية وجعل منه مرجعية لبنانية وليس مرجعية مسيحية فقط.
ليس سرّا أن البطريرك صفير في وضع صحّي خطير. ليس سرّا أيضا أن لبنان في غرفة العناية أيضا. ليس سرّا أن أكثر ما يفتقده لبنان في هذه الأيّام رجل من طينة البطريرك الماروني الذي سيدخل التاريخ من أبوابه الواسعة بصفة كونه مثّل أحد آخر الحواجز أمام سقوط لبنان بمؤسساته وبمسلميه ومسيحييه في آن.
العرب اللندنية