أقلام مختارة

ماذا لو توقف الجيش الليبي عن عملية تحرير طرابلس؟

الحبيب الأسود

الحبيب الأسود

كثرٌ هم الداعون إلى وقف العمليات القتالية في ضواحي طرابلس والعودة إلى طاولة الحوار والمفاوضات، لكن لا أحد منهم يتكهن بما يمكن أن يحدث في حال تراجع الجيش الوطني الليبي عن عملية “طوفان الكرامة”، مثلما لا أحد فكر سابقا في ما يمكن أن تكون عليه ليبيا بعد التدخل الأجنبي لإسقاط النظام السابق في العام 2011، وبعد الانقلاب على نتائج الانتخابات في العام 2014.

أي تراجع للجيش عن مهمته يعني بالضرورة اجتياح الجماعات الإرهابية للمناطق التي ناصرت عملية “طوفان الكرامة”، ومجازر في حق الأبرياء في مناطق مثل ترهونة وغريان وورشفانة وقصر بن غشير، وهذا ما تسعى إليه ميليشيات مصراتة ونظيراتها في مدن أخرى كالزاوية والزنتان، انطلاقا من الرغبة في استعادة تاريخ دموي شهدته السنوات الماضية.

خلال الأسابيع الماضية، حاولت ميليشيات من مصراتة التوجه نحو ترهونة، المدينة التي اختارت دائما أن تكون مع شرعية الدولة، وأم القبائل المنتشرة في ربوع ليبيا والتي عرفت بأنها كانت السند الأقوى للجيش الوطني في كل مراحل دولة الاستقلال، من خلال أبنائها الذين مثلوا دائما النسبة الأكبر من العسكريين.

ومن يتابع تفاصيل عملية “طوفان الكرامة” لا بد أن يتوقف عند معطى مهم، وهو الدور المحوري للواء التاسع القادم من ترهونة، والذي مثّل قوة ضاربة في محاور القتال، ما جعل ميليشيات مصراتة تعمل على شن هجوم انتقامي على مدينة ترهونة الواقعة 88 كيلومترا جنوب شرق طرابلس، بهدف تشتيت جهود اللواء التاسع، لكن أعيان مدينة مسلاتة التي تقع في شمال غرب ليبيا على مسافة 130 كيلومترا تقريباً شرق طرابلس، رفضوا بقوة أن تكون أراضيهم ممرا للميليشيات أو منطلقا لاستهداف جيرانهم التراهنة، وأوصلوا ذلك الموقف إلى أعيان مصراتة، فتم أخذه بعين الاعتبار.

غير أن ميليشيات المجلس الرئاسي استعملت الطيران في قصف ترهونة في مناسبات عدة، كما قصفت عددا من المدن والقرى الأخرى ما أدى إلى سقوط العشرات من القتلى والمصابين من المدنيين، لا لشيء إلا لأنهم أبدوا دعمهم للجيش الوطني، وما سيذكره التاريخ أن الطائرات التي نفذت عمليات القصف كان يقودها طيارون مرتزقة أجانب يجنون رواتب عالية من ثروة الليبيين.

أمراء الحرب في مصراتة، يبحثون عن فرصة ملائمة في حال تراجع الجيش عن الهجوم على ترهونة كما فعلوا في أكتوبر عام 2012، عندما نفذوا عدوانا على مدينة بني وليد تطبيقا للقرار رقم 7 الصادر آنذاك عن المؤتمر الوطني العام الخاضع للإخوان والجماعة المقاتلة، بزعم أن عاصمة قبائل ورفلة تؤوي قيادات من النظام السابق، وهو ما تبين لاحقا أنها مجرد كذبة أدت إلى مأساة حقيقية في صفوف السكان المحليين ممن وقعوا بين قتيل وجريح ومهجّر، إضافة إلى معتقلين تمت تصفية بعضهم في مصراتة وإرسال جثثهم المشوهة إلى أسرهم.

لكن قبل بني وليد، كانت هناك عملية الانتقام البشعة من مدينة كاملة هي تاورغاء التي دُمرت وتعرض سكانها البالغ عددهم حوالي 50 ألف نسمة إلى التهجير بالكامل بعد الإطاحة بالنظام السابق بدعوى أنهم كانوا مناصرين للقذافي. وتم قتل المئات من شباب المدينة ودفنهم في “فندق جنات”، وهو مقبرة شهدت في العام 2011 أبشع المجازر في حق موالين للنظام السابق حيث كانوا يذبحون بالسكاكين كالخراف، أو يرمون بالرصاص في خنادق، وكان من بينهم عدد كبير من أبناء تاورغاء التي لا تزال قضيتها رمزا لبشاعة الانتقام من جهة، والعنصرية من جهة أخرى نظرا لأن كل سكانها من ذوي البشرة السمراء.

كذلك الأمر بالنسبة لورشفانة في العام 2014 عندما تعرضت مدنها وقراها إلى عقاب جماعي بسبب انضمام لوائها العسكري إلى كتائب الزنتان  في معركة المطار بعد أن تم استهدافها من قبل منظومة فجر ليبيا بسبب ولائها لعملية الكرامة. ولم يتوقف الأمر آنذاك عند القتل والاعتقال والتهجير، بل وصل إلى حد حرق أكثر من خمسة آلاف مسكن بعد نهب محتوياتها، وتخريب المؤسسات الحكومية، وإتلاف المحاصيل الزراعية وغيرها.

هذا غيض من فيض الانتهاكات التي لم تحرك الضمير الإنساني ولم تجد من يستنكرها، بل بالعكس هناك من كان يدعمها معتبرا إياها عملا ثوريا عظيما، بينما كان المعتقلون يتعرضون في سجون الميليشيات إلى التعذيب بأشكال لم يشهد لها العالم نظيرا من قبل، يتفنن في ابتكارها أمراء حرب ومسلحون ترتفع أصواتهم بالتكبير، وهم واقعون تحت تأثير المخدرات وحبوب الهلوسة.

إذن ماذا لو تراجع الجيش الوطني عن عملية “طوفان الكرامة” وتراجع عن مواقعه لفائدة تلك الميليشيات المهووسة بالثأر والانتقام؟

الجواب بسيط، وهو أن منطقة غرب ليبيا ستواجه أكبر حملة للقضاء على كل من وقف مع القوات المسلحة أو ساندها ولو بكلمة أو حتى لازم الصمت، وسيتم تدمير مدن وتهجير عشرات الآلاف من السكان، وسيدفع الأبرياء دماءهم وأرواحهم وممتلكاتهم ثمنا لأي تخاذل من قبل الجيش، وسيحدث للمناطق المحررة حاليا ما وقع سابقا لتاورغاء وبني وليد وورشفانة والمشاشية والرياينة وغيرها من المناطق التي شهدت أبشع أشكال العقاب الجماعي.

في الرابع من أبريل الماضي، دخل الجيش الوطني الليبي في عملية كانت منتظرة منذ سنوات، وهي تحرير طرابلس، وليس أمامه اليوم إلا أن يواصلها ويستمر فيها إلى النهاية، لأن وقف المعارك في هذه الحالة يعني التراجع، والتراجع يعني ترك المجال للميليشيات والجماعات الإرهابية لكي تسيطر على العاصمة وعلى مؤسسات الدولة، ولكي تتجه إلى المدن الداعمة للقوات المسلحة وتنفذ في حقها أبشع الجرائم، وهو ما سيؤدي حتما إلى خسائر فادحة ستكون أكبر بكثير من أيّ خسائر تنتج عن استمرار “طوفان الكرامة”، ولن تستطيع الأصوات الداعية إلى وقف المعارك اليوم الحيلولة دونها.

العرب اللندنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق