تشير نظريات التلقي/ نظريات الاستقبال إلى أن طبيعة التلقي لأية رسالة، هي ما تكشف الستر عن الأنساق الثقافية الكامنة المهيمنة على نظام الوعي الكلي لمجتمع ما. فالعبرة ـ في فهم آلية اشتغال الذهنية الجمعية ـ ليست مرهونة بما يُقال ويكتب ويشاهد/ النص، وإنما في طبيعة/ درجة الاستهلاك الثقافي لما يُقال ويكتب ويشاهد؛ بعدما كانت الفعالية النقدية تستهلك جهدها لفهم هذه الأنساق من خلال الرسالة/ النص، ومن قبل؛ من خلال مبدع النص/ القائل/ الناصّ؛ باعتباره صانع الحدث الثقافي.
ما يستهلكه مجتمع ما، ثقافيا، لا يكشف المستقبل فقط، لا يكشف ما سيكون عليه المجتمع لاحقا؛ باعتبار أن هذا المُستهلَك سيشكّل الأنماط الأساسية لنظام الوعي الكلي، وإنما يكشف أيضا عن راهنية الوعي الثقافي الذي انحاز ـ على نحو جمعي، وغير واعٍ ـ لهذه البضاعة الثقافية دون غيرها. بمعنى أن “نوعية المُستهلَك الثقافي” تكشف عن طبيعة الوعي الراهن؛ بقدر ما تكشف عن طبيعة الوعي المستقبلي الذي لا يزال في طور التشكّل، والذي لابد وأن يمتدّ أثره ـ المباشر وغير المباشر ـ لعدة أجيال.
تغيب الإحصائيات الدقيقة في العالم العربي، وخاصة فيما يخص المستهلَك الثقافي الذي لم تُحدّد أسواقه/ ميادينه بعد؛ على نحو دقيق. لكن، إذا ما أخذنا أحد أشهر مواقع التواصل والإعلام الشبكي: “تويتر”، بما يوفره من إمكانية ملاحظة أعداد المتابعين/ المهتمين؛ كمؤشر على رواج الأشخاص الذين يُمثلون قيمة ثقافية أو إعلامية أو اجتماعية… إلخ، فإننا نلاحظ أن ممثلي الخط الديني التقليدي الشعبوي يحظون بمتابعات مليونية تتجاوز العشرين مليون أحيانا. ولا ينافسهم على هذه الأعداد المليونية إلا الحسابات التي تقترب من هذا الخط الشعبوي التقليدي (يُستثنى من ذلك حسابات كبار القنوات الإعلامية وكبار السياسيين ومشاهير الفن؛ فهذه ليست في سياق المقارنة الثقافية هنا). بل ويلاحظ أن ثمة علاقة عكسية، غالبة، وليست حتمية، مفادها: يقلّ عدد المتابعين والمتفاعلين؛ كلما كان الحساب أكثر علمية/ أكثر صرامة ثقافية، والعكس صحيح، إذ يكثر عدد المتابعين والمتفاعلين؛ كلما كان الخطاب الثقافي شعبويا، هزليا، طرائفيا، أو وعظيا ساذجا يتاجر بعواطف بسطاء المتدينين.
يمكن أن نأخذ بعض الأسماء من هذا الموقع التواصلي للمقارنة. طبعا، لن آتي بباحثين/ مثقفين كبار تجاوزوا أو ناهزوا الثمانين من أعمارهم، أمثال: عبدالله العروي أو حسن حنفي أو رضوان السيد، لأقارنهم بمشاهير الوعظ الفضائي؛ لأن أمثال هؤلاء ليسوا متفاعلين مع هذه المواقع التواصلية أصلا، ومن ثم ليسوا في سياق المقارنة الدالة على الرائج الثقافي هنا. سأختار ـ كمثال يشير لأشباهه: الباحث والمفكر الموريتاني/ السيد ولد أباه، وهو أحد المثقفين الجادين، الدارسين للفكر العربي ماضيه وحاضره، والفكر الغربي كذلك، والمتفاعل مع الطرح الجماهيري حاليا، سواء على مستوى الكتابة الصحفية أو على مستوى موقع التواصل الشهير “تويتر”. وفي المقابل سأختار من يقاربه في العمر، بل وفي بعض الاهتمامات الفكرية، ولكن على نحو شعبوي وعظي تحشيدي غارق في الأدلجة الدينية/ السياسية، وهو الواعظ الكويتي/ محمد العوضي. هنا سنلاحظ أن عدد متابعي المفكر/ السيد ولد أباه بلغ حتى هذا اليوم (19370)، بينما بلغ عدد متابعي الواعظ/ محمد العوضي (4345900). نعم، تسعة عشر ألفا، مقابل أكثر من أربعة ملايين!
طبعا لم أذكر أولئك الوُعّاظ الذين لا علاقة لهم بالفكر وجدلياته، أي الذين ينتهجون وعظا قصصيا حكائيا بالغ السذاجة؛ كالواعظ المصري/ عمرو خالد الذي بلغ عدد متابعيه اليوم أكثر من (11000000)/ أحد عشر مليونا، أو الواعظ الكويتي الآخر/ نبيل العوضي الذي بلغ عدد متابعيه (11303630)، فهذان بأرقامهما ـ وإن كانت دالة في سياقها ـ لا يتقاطعان في الاهتمام مع الباحث/ السيد والد أباه؛ من حيث العلاقة بشؤون الفكر/ العلم؛ فلا تكون المقارنة كاشفة بالمقدار الذي يمكن أن تكشفه مع أمثال: محمد العوضي.
إن أول ما نلاحظه أن الفرق بين الأرقام يعكس حجم المأساة الثقافية العربية بحق. الفرق بين الأرقام ليس مما يمكن ردمه؛ بمستوى أن الفرق بين واقع العرب والعالم المتقدم مما لا يمكن ردمه. لاحظ أن الفرق ليس في مستوى ضعفين أو ثلاثة أو أربعة أضعاف، بل لا يتعدى عدد متابعي السيد ولد أباه 0،5 في المئة/ نصف بالمئة من عدد متابعي محمد العوضي، مع الأخذ بالاعتبار أن السيد ولد أباه ليس غائبا عن المجال الحيوي الذي يحضر فيه العوضي، إذ هو حاضر في الجدل الثقافي الخليجي، يحضر ندواته ويكتب في أشهر صحفه، وله علاقات بكثير من المؤسسات الثقافية فيه (وهو مجرد مثال، وغيره كثير، من ذوي الأرقام المقاربة لأعداد متابعيه).
وإذا كان “تويتر” يعكس الوضع الثقافي المأسوي بالأرقام المعلنة على مدار اللحظة، وبالتالي هو مؤشر ـ من جملة مؤشرات بالطبع ـ لا يمكن إغفاله في قدرته على توصيف الواقع الثقافي وتحولاته، فإن متابعي معارض الكتب لديهم كثير من المعلومات الدالة، التي قد لا تكون دقيقة، ولكن ـ على أية حال ـ تعكس واقع المستهلَك الثقافي. فليس سرا لدى دور النشر أن الكتاب الفكري/ العلمي الجاد ليس رائجا رواج الكتاب الوعظي القصصي المتخم بالغرائب، وأحيانا بالخرافات والأساطير الوعظية. وقد لاحظنا بشكل مباشر كيف أن كتبا لهذا الواعظ الفضائي أو ذاك بيع منها عشرات الألوف من النسخ في المعرض الواحد، خاصة عندما تتواتر التوصيات من رموز الوعظ الجماهيري على كتاب يقع في صلب مسيرة التأسيس الأيديولوجي، بينما تطبع الدار الشهيرة ألف نسخة لأشهر مفكري العرب؛ فلا تنفد إلا بعد سنتين أو ثلاث.
يمكنني الحديث عن واقعة لها دلالتها في هذا السياق. فقبل خمسة عشر عاما تقريبا كنت أدرّس طلاب المستوى الخامس في كلية اللغة العربية مادة “النصوص الأدبية”، وقد لاحظت ـ من خلال تفعيل المحاضرات حواريا ـ أن اطلاعهم على أهم الأعمال الأدبية العربية يكاد يكون معدوما، بينما هم متخصصون في ذلك، وهم في النصف الثاني من دراستهم الجامعية؛ فيفترض أن السنوات السابقة حفّزتهم لقراءة أكبر قدر من هذه الأعمال.
لقد خطر لي في يوم من أيام ذلك الفصل الدراسي أن أجري استفتاء على أشهر أديب/ روائي عربي: نجيب محفوظ. فإذا كانوا لا يقرأون روائع الأدب وما يتعلق به وهم طلاب اللغة العربية وآدابها، فعلى الأقل، لا بد أنهم، أو أكثرهم، يقرأ للأديب النوبلي العربي الكبير، خاصة وأن الأدب الروائي سهل الهضم، وفيه كثير من التشويق الذي يُهوّن ملل القراءة لمن هم في بدايات المشوار التثقيفي. لكن، أتت المفاجأة عكس المتوقع، أو عكس المأمول، إذ كانت القاعة تضم ما يقارب 170 طالبا، وسألتهم ابتداء عن أشهر رواياته، فلم يجب أحد، ثم سألتهم عمن قرأ ولو رواية واحدة، فلم يحب أحد. لكن أحدهم قال إنه سمع أن روايته “أولاد حارتنا” فيها سخرية بالله وبالأنبياء، وأنه كاد يقتل بسببها!
أيضا، منذ خمس أو ست سنوات، وفي بهو أحد فنادق مدينة المنصورة في مصر، التقيت بعدد من الشباب المتطلع ثقافيا، الحالم بعصر جديد، القارئ نسبيا، وكانت المفاجأة أنهم لا يقرأون لكبار مثقفي بلدهم/ مصر، لم يقرأوا شيئا لحسن حنفي أو عبدالوهاب المسيري أو صلاح فضل أو جابر عصفور أو عبدالجواد يسين، فضلا عن طه حسين والعقاد ومحمود أمين العالم ونجيب محفوظ وإدوار الخراط، إنهم فقط يقرأون روايات خفيفة، كتبا عابرة، طرائفية، معلوماتية مُكَبْسَلة (على هيئة مقتطفات مُجزّأة في كبسولات). ومع أنهم كانوا مهتمين في مجريات الحدث السياسي آنذاك، إلا أن أحدا منهم لم يقرأ كتابا جادا في التنظير السياسي، ولا في الحفريات الثقافية التي تُساءل الوعي العربي الذي يُشكّل وعيهم ووعي المحيطين بهم من أشقائهم العرب.
لكل هذا، يبدو الوعي التنويري العربي هشا للغاية؛ حتى عند معتنقيه أو المتحمسين له؛ لا لأنهم لم يتجذروا ثقافيا في مبادئه الأساسية وتراثه العظيم فحسب، وإنما ـ أيضا ـ لأن المحيط الثقافي والاجتماعي الذي يتموضعون فيه يتشكل ـ بشكل أوسع وأعمق وأدوم ـ على وقع ثقافة تقليدية بدائية تصارعية، تتضمن كل المقولات المناهضة جذريا لمبادئ وقيم التنوير الذي كان سببا في ولادة عصر جديد للإنسان، أو بالأحرى، ولادة عصر الإنسان.
الحرة