أقلام مختارة

الزهاوي ذلك الشاعر الظريف

خالد القشطيني

خالد القشطيني

نحن نعرف جميل صدقي الزهاوي شاعرا. ونعرفه فيلسوفا وعالما. ولكن قلما يعرفه أحد ظريفا منكتا. له حكايات وطرائف كثيرة شهدها المقهى المعروف باسمه، مقهى الزهاوي في شارع السراي. لم يكن هذا المقهى معروفاً بهذا الاسم، بل كان معروفاً باسم «قهوة أمين». دعاه يوماً نوري السعيد للالتقاء به. سأله الزهاوي: وأين نلتقي؟ قال له رئيس الحكومة: في قهوة أمين. والتقيا هناك. رئيس الحكومة والشاعر الفيلسوف في قهوة ليس فيها من متاع الدنيا غير بضع مصطبات وكراسي قديمة وفونوغراف يشتغل بالزمبرك!
مع ذلك أعجبت الزهاوي فاتخذها مقاماً له. سرعان ما تحولت إلى وكر للأدباء والمثقفين. كان بينهم الرصافي. وكان بينهما ما صنع الحداد، وإن كنت لا أعرف ماذا صنع الحداد. انطلق الرصافي في إنشاد قصيدة طويلة، فتضايق الزهاوي منها ومن صاحبها. جلس يتربص لفكرة يعمل فيها مقلباً عليه، حتى ظهر صبي يبيع الشوكولاته. فقاطع الزهاوي زميله الشاعر متوجهاً لبائع الشوكولاته: «يا ولد، عندك قميص شبابي على قياسي». استغرق الجالسون في الضحك وضاعت القصيدة على الرصافي فخرج غاضباً ولم يعد لذلك المقهى مطلقاً. وعندئذ تربع الزهاوي في جلسته وقد نصب نفسه أميراً على ذلك المقهى.
ذهب الرصافي وإذا بمحله يأخذه شاعر نابغ آخر. نعم إنه محمد مهدي الجواهري. انطلق أبو فرات يتلو شيئا من شعره لم يلبث غير أن قاطعه الزهاوي: أفندم، تتراهن؟ استغرب الشاعر الشاب. كان عمره لم يتجاوز سبعاً وعشرين سنة. استغرب من هذا السؤال. فأعاد الكرة، على أي شيء أستاذنا؟ أجابه قائلاً: «نتراهن على أن أقطع نفسي، وأنت تقطع نفسك ونشوف من يخلص نفسه الأول؟!».
كانت لعبة مما يلهو بها الأطفال. ولكن الجواهري الشاب لم يشأ أن يعترض على سيده وهو في السبعين. فمسك تنفسه وفعل مثله الزهاوي. بعد برهة من الوقت استأذن الجواهري: «يا أستاذ كفاية». فكسب الزهاوي الرهان وحق على الجواهري أن يدفع عنه أجرة المقهى، أربعة أفلس!
المثل الشائع يقول ديكان لا يتعايشان على مزبلة واحدة. كان الأفضل أن نقول شاعران لا يتعايشان في مقهى واحد.
بيد أن الزهاوي لم يكن بخيلاً في الواقع، أو حريصاً على أجرة المقهى، بل كان من المعتاد له عندما يهم بالانصراف أن ينادي على الخادم ثم يدفع عمن يحبهم ويستثني من لا يحبهم أو من أغضبوه في ذلك اليوم. هذا لا، يقول للخادم ويشير بإصبعه إلى من قرر استثناءهم من كرمه الحاتمي.
هكذا كان مقهى الزهاوي، واحة من واحات الفكر والأدب بأسماء مشاهير تلك الحقبة. انضم إليهم عبد القادر المميز صاحب الجريدة الفكاهية «أبو حمد». ما إن دخل حتى استقبله الزهاوي بهذين البيتين:
قد جاءنا أبو حمد – – – يمشي كمشية الآسد
قد طابت القهوة لي – – – صب يا ولد – صب يا ولد
نشر آراءه الفلسفية في شتى المواضيع بما فيها نظرية التطور. أغضب ذلك أحد الزبائن فمسك به يوما وقال: «زنديق تقول إن أصل الإنسان قرد؟ يعني أنا أبويا كان قردا»؟ فأجابه الشاعر الفيلسوف: «لا ابني… أنا ما قلت أبوك كان قردا. أنا أقول: أنا أبويا كان قردا. وكشف له عن صلعته وقبح هيئته».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق