أقلام مختارة

الأكاذيب البيضاء

خالد القشطيني

من الأمثال الشعبية الدارجة بيننا في كثير من البلدان العربية، قول القائل: «شفناك فوق وشفناك تحت». ويراد به السخرية ممن يتذرعون بالذرائع والأعذار، للتهرب من القيام بالواجب أو عمل المعروف، كما نستدل من أصل المثل وحكايته.
وأصل الحكاية هي أن شحاذاً طرق باب إحدى العائلات الموسرة، طلباً للصدقة والإحسان. فردت عليه صاحبة الدار وكانت في الطابق الأعلى، فقالت: لو كنت تحت لكنت جئتك وأعطيتك شيئاً. فانصرف الشحاذ. وبعد أيام قليلة أخرى، دار الشحاذ دورته المعتادة وطرق باب البيت نفسه. وكانت صاحبة الدار في هذه المرة في الطابق الأرضي، فأجابته قائلة: لو كنت فوق لكنت نزلت بشيء من الفلوس وأعطيتك. فقال لها الشحاذ: «شفتك فوق وشفتك تحت». وسار القول مثلاً.
هذا القول مثل واحد من الأمثال والطرائف الكثيرة المتعلقة بالأعذار البيضاء التي يقدمها الناس للتخلص من الشحاذين وغيرهم، وما أكثرهم في الشرق الأوسط، لصرفهم عن بيوتهم. الأدب العربي مليء بنماذج منها. كما أن لدينا في تراثنا الشعبي أمثلة كثيرة أخرى تسخر من المتحججين بالأعذار. من أشهر الأمثلة التي كانت شائعة بيننا قول القائل: «احتاجوا لليهودي قال اليوم عيدي». وفي اليمن يقول الناس: «عرني السلة، قال فيها طحين. عرني الشبكة قال فيها بيض»!
كلا المثلين عامران بالسخرية. بيد أن هذه الأمثال تثير موضوعاً فلسفياً يتعلق بالأعذار؛ هل هي فضيلة أم رذيلة؟ ولا سيما عندما تكون كاذبة ومنتحلة. الإنجليز يجيزونها ويسمونها الأكاذيب البيضاء. ولكنهم بصورة عامة لا يرتاحون لذكرها، ويفضلون عدم سماعها. ويحذر أديبهم المعروف ألبرت هوبرت الناس منها، ويقول إنها غير مجدية بشيء، فالصديق لا يحتاج إليها، والعدو لن يصدقها. أما الفرنسيون فلهم قول ظريف في ذلك، يقول بشيء من الاستعانة بحرف «لو». يمكن وضع باريس في قنينة، لو كانت باريس بحجم الصرصور لوضعتها في قنينة. لو كنت تحت لأعطيتك صدقة! وما الفائدة من وراء ذلك؟
أما نحن في تراثنا الأخلاقي العربي، فالظاهر أننا نعتبر الأعذار المنتحلة، أو ما يسميه الإنجليز الكذب الأبيض، من حسن الأدب. وللمجاملة بين الفلسطينيين مثل يقول: «بيّن عذرك ولا تبيّن بخلك»!
لا أحد منا يجرؤ على الخروج إلى الزائر، ويقول له: «آسف لا أستطيع استقبالك الآن لأنني مشغول». وإنما يختبئ وراء الباب، ويجعل زوجته تعتذر للزائر فتقول: «آسفة. أبو فلان غير موجود». لا أحد منا يجرؤ على مصارحة زميله بالقول: «آسف لا أستطيع إقراضك هذا المبلغ لأنني أعتبر الدين بين الأصدقاء يخرب الصداقة ويفرق بين الأحباب». نقول بدلاً من ذلك: «والله العظيم يا أبا فلان أنا غارق في الدين، والبنك يريد أن يحجز على بيتي، ولا أدري ماذا أعمل». ثم تخرج لصديقك بورقة حسابات مضت عليها سنوات كثيرة، لتقنع صاحبك بصحة ادعائك!
والحقيقة أن هناك من الحكومات العربية من تمارس الأساليب نفسها. قلما تجد بينها من تصارح شعبها أو جاراتها.
الشرق الأوسط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق