كثيرون ممن يحملون في هذه الأيام قضية الاختفاء الدراماتيكي للصحافي جمال خاشقجي، لا يفعلون ذلك، حبا بالحرية، بل كرها بالسعودية.
كثيرون من هؤلاء سبق لهم أن تقدموا صفوف من تولوا تسخيف جرائم مرعبة حصلت في لبنان، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، اغتيال الصحافيين سمير قصير وجبران تويني ومحاولة اغتيال الإعلامية مي شدياق.
وبطبيعة الحال، لم يثر اهتمام هؤلاء ما نسب إلى إيران من أدوار في اغتيال معارضين لنظامها في الداخل والخارج، ولا عملية جرى إحباطها كانت تستهدف بها الاستخبارات الإيرانية التي تتخذ من بعض سفارات نظامها مقرا لها، اجتماعا مناهضا انعقد في 30 حزيران/يونيو في شمال باريس.
هذه الجولة السريعة، لا تستهدف مطلقا التخفيف من حجم “اللغز التراجيدي” الذي يخفي جمال خاشقجي ـ حيا أو شهيدا ـ بل تطمح إلى إيجاد إطار سليم للمسألة.
في واقع الحال، فخاشقجي، بغض النظر عن الأبعاد الجنائية لقضيته وسلامة الأدلة التي تجرم هذا أو ذاك، هو ضحية نهج خطر وصل إلى أوروبا، حيث قتل أخيرا وفي أقل من سنة واحدة ثلاثة صحافيين كانوا يعملون على كشف فضائح فساد.
ولا يمكن أن تثمر قضية خاشقجي إيجابيات إذا ما تركت للصراع السياسي المفتوح بين دول متصارعة ومحاور متنافسة، لأنه والحالة هذه سيدور عليها دولاب الزمن ويسحقها، إذ سيتم إدخالها في لعبة المصالح وفي معادلات المقايضة.
وهذا يستدعي إدراج ملف خاشقجي في إطار قضية كبرى وحساسة وواجبة، وهي حصانة المعارضين عموما والصحافيين خصوصا.
وثمة من يعتقد أنه لو تعامل المجتمع الدولي بصرامة مع من مد يده الإجرامية، سواء كان نظاما أو كيانا أو جماعة، على سمير قصير، مثلا، لما كان هناك اليوم ملف يحمل اسم جمال خاشقجي.
ولا يغيب عن بال أحد أن الأنظمة والجماعات السياسية، مثلها مثل الأفراد، يقلد بعضها البعض الآخر، وتسمح لنفسها ما سمح غيرها لنفسه به في سياق ما تسميه “ضرب المتآمرين”.
وللعالم الثالث مصطلحاته، فـ”المتآمر”، هو كل معارض وكل من يتعاطف مع معارض وأحيانا كل من يشاهد قناة تلفزيونية أو يستمع إلى محطة إذاعية أو يقرأ صحيفة إلكترونية تستضيف معارضا.
كما أن للعالم الثالث نظام عقوباته، فـ”المتآمر” يستحق الإعدام من دون حاجة إلى محاكمات وحتى نقاشات.
ولا يغيب عن البال أن في العالم الثالث نوعا فريدا من القادة، فهم ليسوا حكاما بل آلهة، تماما كحكام الشرق في التاريخ. رؤيتهم ليست سياسية بل هي رؤيا “ربانية”، وكلمتهم ليست نتاج تفكير بل هي منزلة من السماء، ومعارضوهم لا يملكون نظرة مختلفة لأوطانهم، بل هم مرتدون ويلبسهم الشيطان ويستحقون الموت.
وإذا لم يدرج ملف خاشقجي، في إطار وضع حد فاعل لنهج استهداف المعارضين، جسديا ومعنويا، فإن الإنسانية ستفجع بملفات مأساوية مماثلة مع إشراقة كل شمس وسوف تتمدد إلى بقاع لم يحسب أحد أنها يمكن أن تكون مسارح جريمة.
وفي هذا السياق، لا بد من اعتبار ملف جمال خاشقجي نقطة بداية لورشة كبرى، تبدأ بجلاء ملابسات ما حصل معه واقتياد الفاعلين والمحرضين إلى المحاكم المناسبة، وإعادة الاعتبار إلى ملفات يراد لها أن يطويها النسيان كملفات قصير وتويني وشدياق في لبنان، وإخراج المعارضين السياسيين وأهل الكلمة وأصحاب الرأي من المعتقلات، وإعادة صوغ المعاني الصحيحة لمصطلحات المتآمر والمعارض والإله والحاكم وخلافها الكثير الكثير.
وهذا كله يستدعي، قبل أي شيء آخر، قيام منظمة دولية تفصل بين المصلحة من جهة والمبدأ من جهة أخرى. فكابح التغيير، في الوقت الراهن، يتمثل في قيادات الدول الديموقراطية نفسها، حيث يقدم الحكام النفعية على المبدئية ويفضلون التدفق المالي على انتشار المبادئ ويضحون بمئات آلاف الضحايا من أجل مستثمر واحد.
طبعا، بمعايير هذا الزمن، ما ورد في هذا المقال هو حلم؛ ولكن، إذا بقي هذا الحلم مجرد حبر على ورق فإن جميع من يجرؤ أن ينطق بـ”لا” هم على درب سمير قصير وجمال خاشقجي سائرون! وكثير من هؤلاء هم اليوم في موقع من تحميهم موالاتهم كما كانت عليه يوما حال.. خاشقجي.
الحرة