رياض عصمت
صورة الشيطان في الأدب والفنون بالغة القدم، تجلت في إبداعات شتى عبر الزمان منذ ظهور أول كتاب مطبوع يروي أسطورة فاوست في ألمانيا في العام 1587، وذلك قبل عام واحد من استلهامها من قبل المسرحي البريطاني كريستوفر مارلو في مسرحيته الشهيرة “التاريخ المأساوي لحياة ومصرع الدكتور فاوست” (1588)، وهي إحدى الروائع القليلة التي خلفها كاتبها الذي نافس شكسبير، قبل أن يجري اغتياله في ظروف غامضة وعمره لا يتجاوز 29 سنة فقط.
هكذا يبدو وكأن لعنة شيطانية مست حياة مارلو، مثل لعنة فاوست الذي أغواه ميفستوفوليس ليبيع روحه من أجل نيل سلطة مطلقة تمكنه من التحكم بمصائر الأحياء من البشر والأموات، فيمارس ألاعيبه السحرية عليهم ويحول حياتهم إلى نعيم أو جحيم. ما لبثت أسطورة فاوست وميفستوفوليس أن عادت إلى وطنها الأم حين ألف الأديب الألماني الكبير غوته الجزء الأول من مسرحيته الفلسفية/الشعرية “فاوست” في 1806، ثم أنجز الجزء الثاني في عام 1806 راسما لها لأول مرة نهاية سعيدة.
لا شك أن أسطورة فاوست التي تمثل الشهوة الجارفة للقوة والنفوذ والمعرفة من خلال عقد شيطاني مع ميفستوفوليس ذات موضوع تاريخي عرفناه في التاريخ القديم عند نيرون وكاليغولا الرومانيين، كما عرفناه في التاريخ الحديث عند هتلر وموسولويني وستالين وفرانكو وبينوشيه وميلوسوفيتش وأمثالهم ممن ثبتت مسؤوليتهم عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
في الواقع، تتشابه صورة الشيطان ـ كما صورتها الأديان الإبراهيمية الثلاث الكبرى، اليهودية والمسيحية والإسلام ـ في إيحائها بالشر، وفي كيفية إغوائها لنفوس البشر.
لم يتوان الأديب العربي الكبير نجيب محفوظ، حائز جائزة “نوبل” للآداب، عن تصوير الشيطان في روايته الملحمية “أولاد حارتنا”، التي نشرت في بيروت قبل عشر سنوات من السماح بنشرها وتداولها في مصر، رغم أن محفوظ تعامل باحترام مع شخصياته التي جسدت الرسل في إطار معاصر: “جبل” (وهو يرمز إلى موسى الذي كلمه الله من وراء الجبل،) “رفاعة” (وهو يرمز إلى الطهر في شخصية المسيح،) و”قاسم” (وهو يرمز للعدل في شخصية الرسول محمد، الذي أرسى أسس قوانين وضعية ناظمة للمجتمع في ذلك الزمان).
أخيرا، ابتدع نجيب محفوظ شخصية رسول رابع أسماه “عرفة” ليرمز من خلاله إلى رسالة العلم والمعرفة التي تكمل رسالات الأقدمين من أحفاد أدهم (والمقصود به آدم) المطرود بسبب مؤامرة إدريس (والمقصود به إبليس) من جنة الدار الكبيرة للجد المهيب “الجبلاوي”. يتابع محفوظ في روايته الضخمة أولئك الذين انحدروا من نسل “إدريس”، فزرعوا الشقاق والفتنة والعنف الدموي أينما حلوا، وجعلهم في صراع دائم مع الأخيار الذين حاولوا جعل المحبة إلى النفوس تعود، والسلام بدل العنف يسود.
بالمقابل، هناك عدد من المقاربات السينمائية والتلفزيونية للسحرة والساحرات من عبدة الشيطان وأتباعه، منها بعض أفلام المغامرة والحركة، كما في “نهاية العالم” (1999) من بطولة آرنولد شوارزنيغر، “موسم الساحرة” (2011) من بطولة نيكولاس كيج، أو “آخر صائدي السحرة” (2015) من بطولة فان ديزيل، وهي أفلام “أكشن” تجارية هدفها الإثارة والتشويق.
أما تجسيد الشيطان نفسه بصورة فنية، فاشتهر عبر فيلم بعنوان “ميفيستو” (1981) من إخراج المخرج الهنغاري إشتفان تزابو، وإن كان هناك فيلم قديم ما زال محفورا في ذاكرتي من سني الطفولة، هو “لعنة الشيطان” (1957) من بطولة دانا أندروز، يظهر في أواخره الشيطان مطاردا ضحيته على سكة قطار. عندما يأتي رجال البوليس محققين في مصرع الرجل، يكتشفون أن الرعب جعله يغير مساره الآمن إلى سكة أخرى ليسحقه قطار مندفع.
في المسرح، نجد شخصيات الساحرات أكثر شهرة من الشيطان، من ساحرات “ماكبث” لشكسبير حتى ساحرات سالم في مسرحية “البوتقة” لآرثر ميلر، التي قصد فيها أن يصور رمزيا هوس مطاردة اليساريين في حقبة مكارثي السوداء الممتدة من أواخر الأربعينيات حتى الخمسينيات من القرن العشرين. بهذا، أرسى ميلر بوضوح أسس الإسقاط الرمزي للشر على العصر الراهن، وإن كان للشر من قبل إيحاءات منذ عصر شكسبير.
النزعات الشيطانية والسحرية قديمة إذن، اشتهر بها خاصة كريستوفر مارلو عندما كتب مسرحيته عن “فاوست”. ثم ما لبثت أن ازدهرت شهرة مؤلفين آخرين كتبوا مسرحيات تتضمن شرا فظيعا ومرعبا خارج إطار السحر والشعوذة، شرا موحيا بنزعة شيطانية كامنة في نفس بعض البشر دون رادع أخلاقي أو ديني أو إنساني، كما في مسرحيتي “للأسف إنها عاهرة” تأليف فورد و”الشيطانة البيضاء” تأليف وبستر. بالإضافة إلى هاتين المسرحيتين توجد مسرحية تراجيدية ثالثة مشهورة ألفها ثلاثة كتاب معا، هم: راولي وديكر وفورد، عنوانها “ساحرة إدمونتون”. يبدو أن إلهام هذه المسرحية ظل حيا حتى يومنا الحاضر، إذ اقتبست عنها مؤخرا مؤلفة مسرحية أميركية معاصرة تدعى جِن سيلفرمان مسرحية أسمتها “ساحرة”، جمعت فيها بين شخصية الشيطان وشخصية الساحرة معا.
يتسم نص سيلفرمان بالطابع التراجيكوميدي، على نقيض أصله القديم. وبالرغم من الإيحاء بالحفاظ على زمان الأحداث ومكانها التاريخيين، حفل النص بإسقاطات مبتكرة لتلك العلاقة الغريبة بين الشيطان والساحرة.
تصور الكاتبة سيلفرمان الشيطان في مسرحيتها كأنه بائع جوال ينتقل من بيت إلى بيت بغية شراء أكبر قدر من الأرواح، لكن الساحرة المنبوذة من أهل القرية وحدها من ترفض بيع روحها للشيطان.
لا يخلو نص المسرحية من بعض الضياع بين الأصل التراجيدي الذي استوحي منه، وبين سعي المؤلفة إلى التلميح لمقولات سياسية مبهمة المعاني تخص زماننا الراهن.
كما جعلت المؤلفة الطابع الكوميدي يغلب على نصها زيادة عن اللزوم، خاصة في الحوار الذي تخللته تعابير عامية حديثة دفعت الجمهور للقهقهة عاليا بشكل صاخب.
أخرجت العرض بشكل أنيق لصالح “مسرح الكتاب” المخرجة مارتي ليونز، وتميز بإتقان العناصر التقنية، بدءا من الديكور والإكسسوار، ووصولا إلى الإضاءة البارعة والموسيقى الموحية. كما تجلت قدرة المخرجة في إدارة طاقم تمثيل محترف وقدير للغاية، حاول أفراده إنقاذ النص حيرة النص بين المأساة الدامعة والكوميديا الفاقعة.
ربما كانت الكوميديا تلائم أحيانا موضوع الساحرات في بعض الأفلام السينمائية، مثل “جرس، كتاب وشمعة” من بطولة جيمس ستيوارت وكيم نوفاك، أو “هوكس بوكس” من بطولة بيتي ميدلر، أو “ساحرات إيستويك” من بطولة جاك نيكلسون وشير وسوزان ساراندون وميشسل بفايفر، لكن الكوميديا هنا في مسرحية معروفة بتراجيديتها لا تستقيم أصلا مع الحبكة الجادة.
تروي المسرحية قصة حنق ابن شرعي مع شاب انتهازي جشع يتغلغل في أبيه الكهل النبيل حتى يفضله عليه دون أن يدرك خداعه إلى أن يعلم متأخرا أنه تزوج سرا من الخادمة وأنها حامل منه، فيحاول الشاب المخادع التنكر لزوجته وطفله بأنانية مفرطة. يحاول الابن الشرعي الاستعانة بعقد من الشيطان ليخلصه من شر هذا الدجال المتملق، لكن الصراع بين الابن الأصيل والابن المتبنى لا يلبث أن يتحول من هذر إلى جد، فيقتل الأول الثاني طعنا بسكين في مشهد دموي عنيف مفاجئ.
توحي نهاية المسرحية بأن الشر الذي تنطوي عليه نفوس البشر أحيانا لا يحتاج إلى تنازل المرء عن روحه للشيطان مقابل سلطة ما، إذ أنه شر متأصل في النفس يحوِّل الإنسان إلى حيوان، متعته إلحاق الأذى وإرضاء الشهوة والنزوات.
بالمقابل، ترينا المسرحية الابن الشرعي يرفض زواج المصلحة الذي يرتبه له والده من صبية ثرية، ويحاول الاقتران بالخادمة المغرر بها والحامل من رجل ينكرها وطفله.
تنتهي مسرحية “ساحرة” نهاية شبه مفتوحة، فالشيطان سيرحل عن بيت الساحرة، وأفراد ذلك المجتمع الصغير في قرية نائية تحركهم نزواتهم ومطامعهم دون حاجة لجهد من ساحرة منبوذة أو شيطان.
إن دافع الشر عند البشر لا يكمن في قوى ميتافيزيقية، وإنما هو كامن في نفوسهم دون مؤثرات خارجية. لذا، فالإنسان وحده يتحمل مسؤولية أعماله ويدفع الثمن.
الحرة