إبتهال الخطيب
ليس هناك ما هو أسوأ من تمويه المعلومة وإخفائها سوى تمويه الأشخاص وأخفائهم؛ ونحن نعيش في بقعة من هذه الأرض حيث “الإخفائيون” ظاهرون، وحيث إخفاء يساند إخفاء وتضارب يدعم تضارب، حتى تتضبب الصورة تماما ويصبح فك شيفرتها عملية عصية تنتهي غالبا بالاستسلام.
قاهرة هي سياسة غياب أو فوضوية المعلومة. فالمعلومة التي تغيب أو تغوص في الفوضى تذهل جمهورها. تقع بهم في شراك الشكوك والشائعات. تضخم الأكاذيب وتكذب الحقائق، حتى يصبح التصديق عصيا حتى على المنطق والمعقول والمتوقع. إلا أن غياب المعلومة أو فوضويتها لا ينطوي فقط على مخاطر السعي الجمعي في الظلام، حيث شعوب بأكملها تبدو سائرة في صحارى قاحلة في ليل دائم ليس له نهار، إنما هي تنطوي على إهانة فاحشة وتحقير للشعوب واستخفاف بردود فعلها، ولربما ـ فقط أقول ربما ـ هو استخفاف مستحق.
تغيب عنا كشعوب شرق أوسطية المعلومات باستمرار، رؤانا دائمة التضبب، حقائقنا معجونة بالشائعات، وأكاذيبنا أقرب إلى الحقائق؛ ونحن، بعاداتنا وتقاليدنا الغائرة في منطق الخصوصية والخجل والعيب والعار ووجوب الطاعة، نقبل ونسكت ونتناسى؛ أفلا يكون الاستخفاف بنا مستحقا؟
شعور غريب أن تعيش في القرن الواحد والعشرين، قرن الإنترنت حيث المعلومة عند أطراف أصابعك وحيث التواصل المستمر بين بشر العالم ينهي فكرة الخصوصية ويجعل من السرية ضربا من الخيال؛ ومع ذلك لا يزال الناس يختفون في محيطك تحت جنح الظلام، تماما كما في الأفلام العربية القديمة حيث زوار الليل والسجادة الحمراء تلتف على الجثة والسيارة السوداء تنتظر لتتخلص منها. فرق أوحد بين حياتنا وهذه الأفلام، زوار الليل أصبحوا زوار وضح النهار، والاختفاء أصبح عادة متكررة لا موضوعا استثنائيا يستحق أن يكون مادة فيلم سينما. حياتنا غريبة، غائرة في المؤامرات، ضائعة في دهاليز القصور، مضببة بالدخان، دخان أسود قاتم يبررونه على أنه بخور فاخر.
يختفي الصحافي جمال خاشقجي، كما اختفى غيره كثيرون وكما سيختفي بعده كثيرون كذلك.
ترى الحكومات والمجتمعات في الغرب المختلف على أنه مكسب ـ على ما يسبب من متاعب ـ مدخر من نوع سيكون له فائدة ولو بعد حين. يتعاملون معه على أنه لربما يصبح في موقع سلطة في يوم، فالديموقراطية الغريبة عندهم تعطي فرصة للجميع وتغير الأقدار بشكل سريع وحاد.
المختلف في محيطنا الشرق أوسطي المعبق بالبخور والعطور المعتقة هو عبء؛ حمل آخر يحمل على الأكتاف؛ زيادة ناتئة عن الصف المرتب الجميل لابد من استقطاعها، وفي النهاية ما هي قيمة فرد ـ وفرد مزعج في الواقع ـ في مجتمع جمعي الجماعة فيه فوق الفرد، والحكومة فيه فوق الجماعة، والمصالح فيه فوق الحكومة؟ يذهب واحد يأتي غيره ألف ألف واحد. فبلادنا ولادة وأبناؤها أضحيات لمصلحة الجماعة، والناتئ عن الصف شيطان مزعج لا بد من قصقصته لتنتظم الحياة مرة أخرى.
اسمحوا لي أن أغير رأيي؛ ليس الأسوأ في الواقع اختفاء الأشخاص، فكلنا سنختفي في يوم ما! تتعدد الأسباب والاختفاء واحد، إنما الأسوأ هو تضبيب المعلومة وعجنها بالشائعات والمغالطات وفردها في طبق من التهديدات ثم رش وجهها أخيرا برشة رعب لنأكله نحن في النهاية هناء وشفاء.
إن إخفاء المعلومة والخوف من تداولها وسرية التعامل مع الأحداث والأسباب هو السيف المسلط على رقابنا جميعا وأبدا. هو ما قتل وسيقتل وما ستر وسيستر. لربما نحن شعوب وجماعات لا حق لنا في المعلومة لأننا لا نريد أن ندفع ثمنها. خوفنا المتزايد على أرواحنا وأبنائنا يجعلنا نضحي بالمعرفة مقابل الأمان، ونحن دون أن ندري نضحي بالأمان في الواقع بتضحيتنا بالمعرفة ومعلوماتها.
يقول الدكتور شفيق الغبرا في مقاله المعنون “جمال خاشقجي: من أجل الحرية والعقلانية” والمنشور في القدس العربي بتاريخ 10 تشرين الأول/أكتوبر الماضي: “لقد تغير الزمن، لم يعد خطف صحافي بارز كجمال أو قتله وإخفاؤه يمر مرور الكرام. فالضجة حول جمال في العالم كله وفي العاصمة الأميركية وفي تركيا وفي عوالم الغرب والعرب أكبر بكثير من كل التوقعات. إن خطف جمال والإساءة إليه جسديا (تعذيب) وإمكانية تصفيته وقتله لا زالت تتفاعل، بل من المرجح أن تزداد هذه القضية تفاعلا في أوساط تركية وأميركية وعربية وعالمية وإعلامية”.
كم أتمنى لو بقي في الصدر شيء من تفاؤلك دكتور، أكاد أراني وقد نسينا أو تناسينا بعد أسبوع أو أسبوعين، وقد شغلتنا حيواتنا ولقمة عيشنا وتأمين أبنائنا عن تقصي الحقيقة. سنترك الموضوع للغرب، وسيحسبها الغرب حسبة مصلحية وسترقد الحادثة بجانب أخواتها السابقات طي الكتمان. كم هي مخيفة حيواتنا.
الحرة