الاب ميلاد جاويش
ما يلي اختبار داخليّ وليس تحدّيًّا لأيّ كان. ملحوظة لا بدّ منها في البداية…
ما أقسى أن تزور اسطنبول القديمة وأنت من الذين يُلمّون بتاريخ هذه المدينة لمّا كانت بعدُ مسيحيّةً صرف، لا بل عاصمةَ المسيحيّة المشرقيّة!
ما أقسى أن تزور اسطنبول وأنت تعرف أنّ كلّ زاوية تُخبئ مجدًا غابرًا وعزًّا أثيلاً وجبروتًا قلَّ نظيرُه!
هنا كان ديرٌ، وهناك كانت كنيسة، وهنالك كان قصر أو ميدان… أمّا الآن فأسواق مكتظّة وبيوت متكدّسة.
غيرك يزور اسطنبول سائحًا آكلاً شاربًا، أمّا أنتَ الذي يعرفها فتزورها متألِّمًا متحسّرًا. لمَ هذا العذاب وأنت تبغي أن تسوح في ربوعها؟ لأنّك تعرف “مجد بيزنطية”، وتعلمُ ما كانت عليه من العظمة والبهاء والعزّ، هذه المدينة التي قال فيها يومًا بطريركُها يوحنّا الذهبيّ الفم لمّا دخلها آتيًا من أنطاكية سنة 398: “لو أُعطيَ لوُجَهاء القسطنطينيّة لكانوا جعلوا كلَّ شيء من الذهب الخالص: الأرضَ، والجدرانَ حتّى السماء والجَلَد”.
ما أقسى أن تزور اسطنبول وطيفُ الأباطرة العِظام يلاحقك أنّى حللت! طَيفُ قسطنطين الكبير الذي أسّسها على أنقاض بيزنطية القديمة ودعاها باسمه، جاعلاً منها عاصمةً لمملكته، “روما الجديدة” بدل روما القديمة جارة نهر التِيبر؛ طيفُ ثيودوس الثاني باني سورها العظيم، الذي عجزت الجيوشُ عن اقتحامه لقرون؛ وبالأخصّ طيفُ يوستنيانوس الذي ما ترك شيئًا فيها إلاّ وَشَيَّده أو جدَّد بناءه.
أين مجدُ الأباطرة؟ أين قصورُهم المنيفة؟ أين ذَهبُهم الخالص؟ أين جهدُهم الذي بذلوه تحت الشمس؟ ذَهَب واندثر. بدل القصر الإمبراطوريّ المذهّب، بنى السلطان أحمد العثمانيّ جامعَه الأزرق، يحاذيه حمّام لحرم السلطان. سور ثيودوس العظيم أضحى بقايا حجريّة سرحت فيه المـَعِز لقرون. أمّا بازيليك آجيا صوفيّا، رائعة يوستنيانوس الباهرة، و”كُبرى الكنائس” كما سُمِّيت، التي لمّا دشَّنها يوستنيانوس صرخ: “لقد تجاوزتُكَ، يا سليمان!” (سليمان، باني هيكل أورشليم)، أضحت اليوم متحف “آيا صوفيا” بعد أن حوّلها العثمانيّون إلى جامع لمّا فتحَ السلطان محمّد المدينةَ سنة 1453. وحدَه “باب أَدِرْنَة” أُصلِحَ في السور وَرُمِّم لأن منه دخل السلطانُ الفاتح المدينة، بعد ظهر ذلك اليوم الواقع فيه 29 أيّار 1453. على الباب نفسه، عُلِّقت رخامة كُتبَ عليها الحديثُ النبويّ الذي طالما حَفَّز المسلمين وسلاطينَهم على احتلال عاصمة البيزنطيّين: “لَتُفْتَحَنَّ القسطنطينيّة، فَلَنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ولَنِعمَ الجيش ذلك الجيش”.
فظيعٌ كيف لم تعرف هذه المدينة افتقادها، مثلها مثل أورشليم التي بكى عليها السيّد المسيح يومًا ما وقال فيها نبوءةً تنطبق كلماتها أيضًا على مدينتنا:
“لَيتكِ عرفتِ أنتِ أيضًا في هذا اليوم طريقَ السلام! ولكنّه حُجِبَ عن عينَيكِ. فسوف تأتيكِ أيّامٌ يَلفُّكِ أعداؤك بالمتاريس، ويحاصرونك ويضيّقون عليك الخناق من كلّ جهة، ويُدمّرونك وأبناءَك فيك، ولا يتركون فيك حجرًا على حجر، لأنّك لم تعرفي وقتَ افتقاد الله لك” (إنجيل لوقا 19: 42-44).
القسطنطنيّة، الكلّ كان ضدّها، الكلّ عاكَسها، الكلّ طمع فيها: أعداؤها، جيرانها، حلفاؤها، الفرس، العرب، الصرب، البلغار، الروس، الصليبيّون، العثمانيّون… حتّى أباطرتها ورجالُ دينها لم يرحموها: الأباطرة لتنافسهم على المُلك، ورجال الدين لمشاكساتهم اللاّهوتيّة وجدالاتهم البيزنطيّة العقيمة التي لا تنتهي.
إن انتفتْ المسيحيّة في القسطنطنيّة واندثرت، فهذا ما ساهمت به أيدي المسيحيّين أنفسِهم إلى حدّ كبير. يُنقَل عن لوقاس نوتاراس، أحد أعيان الروم البارزين ووزير الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر، آخر أباطرة المدينة قبل الفتح، أنّه قال عندما سمع أنّ الغرب المسيحيّ يفرض على القسطنطنيّة الأرثوذكسيّة الاتّحادَ مع الكرسيّ البابويّ في روما شرطًا لمساعدتها على فكّ حصار العثمانييّن: “عمامةُ العثمانيّ ولا قلنسوةُ الكاردينال”. لماذا هذا الحقد الدفين؟ لأنّ أهلَ القسطنطنيّة لم ينسوا كيف أنّ الصليبيّين الآتين من الغرب، الذين هم مبدئيًّا “إخوةٌ في الإيمان”، هجموا على المدينة، في أثناء الحملة الصليبيّة الرابعة سنة 1204، فأحرقوها ونهبوها وقتلوا رجالها وسَبَوا نساءها وأطفالها.
حتّى الطبيعة لم ترحم تلك المدينة، فقد ضربتها الزلازلُ مرّات عدّة عبر العصور وهدّمت فيها ما هدّمت، حتّى إنّ قبّة آجيا صوفيّا الضخمة نفسها لم تسلم من غضب الطبيعة، فَهَوَت من جرّاء زلزلة في 7 أيّار سنة 558، أي بعد إحدى وعشرين سنة من بنائها.
أعود إلى بازيليك آجيّا صوفيّا، درّةِ القسطنطنيّة وتاجِ فخرها. أذكر أنّه لمّا وقع نظري عليها لأوّل مرّة، انتابتني رهبةٌ عظيمة وكأنّي أقفُ أمام مجدِ التاريخ كلّه. أنا الراهبَ “البيزنطيّ” أقف أمام مجد بيزنطية وعلامتها الفارقة! في اليوم الثاني لزيارتي، دخلتُها وأنا أترنّم تائبًا. مع أنّ رائحة العفن الناتج عن الرطوبة عبقت في أنفي ما إن اجتزتُ عتبتَها، لم أستطع أن أُمسك عينيّ عن ذرفِ دمعة شاردة. دخلتُ “وقلبي مرتفع إلى العلاء”، كما لو أنّي في ليتورجيّة مقدّسة. رأيتُ غيري يزور الكنيسة سائحًا يصوّر يمنةً ويسرةً، أمّا أنا فزرتُها حاجًّا، وحَجّي صلاة وتنهيدة.
على الفور أخذتُ زاويةً وجلست أتأمّل وأُرنّم بالعربيّة وما أُتقنُه من الترانيم باليونانيّة. تزاحمت في مخيّلتي صُوَر جمّة، صُوَر أولئك الذين مرّوا من هنا عبر العصور، وصلّوا واحتفلوا بين حنايا هذا المعبد الرائع. تردّدت إلى أُذُنيّ أصواتُ المرنّمين الفَخيمي الحناجر وصلوات البطاركة وابتهالاتُ القدّيسين، وبالأخصّ صوتُ القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، الذي رَئِس أسقفيّة القسطنطنيّة لتسع سنوات، قضى منها ثلاث سنوات في المنفى (من سنة 398 إلى سنة 407). صحيح أنّ هذا القدّيس العظيم لم يعاصر هذه الكنيسة بالذات، أي تلك التي بناها يوستنيانوس، بل الكنيسة الأولى التي بناها الإمبراطور قسطنطين تحت الاسم نفسه، والتي احترقت بفعل هيجان الشعب الثائر على الإمبراطور أركاديوس لمّا قرّر سنة 404، بسعي من امرأته الإمبراطورة إفذوكسيّا، أن يُرسل الذهبيّ الفم نفسَه إلى المنفى. نعم، وأنا جالس على رخام البازيليك في ذلك اليوم، لم أنسَ شفيعي، لأنّ صوته العذب الذي طالما أسكر الجموع بعظاته العسجديّة تردّد صدَاه في أذنيّ.
وأنا جالس على رخام البازيليك، ذلك الرخام الذي دَاسَته يومًا حوافرُ الجواد الذي امتطاه السلطانُ محمّد الفاتح وهو يدخل الكنيسة يوم الفتح، أخذتُ أقرأ واحدةً من عظات الذهبيّ الفم. وقع نظري على العظة التي ألقاها القدّيس في سقوط إفتروبيوس، أبرز وزراء الإمبراطور أركاديوس. كان هذا الرجل، أيّام مجده، غايةً في الغنى والعزّ والصلف والتجبّر. وإذ بالزمن يدور عليه ويخسر عطف الإمبراطورة إفذوكسيّا، فتُقيله من منصبه وتضطهده. فما كان منه إلاّ أن التجأ إلى بازيليك آجيا صوفيّا ليحتمي عند مذبحها، خائفًا جزعًا من بطش الإمبراطورة. فقبلَه الذهبيّ الفم وحَمَاه، لا نظرًا لاستحقاقاته، إذ كان بلا استحقاقات، بل وفاءً للمبدأ الذي كان يقضي بأن تحمي الكنيسةُ مَن يلتجئ إلى كنَفها ويتمسّك بمذبحها، هذا المبدأ الذي سعى إفتروبيوس نفسُه أن ينقضَه لمّا كان في عزّ جبروته.
وأنا أقرأ مقدّمة هذه العظة، لم أكن أدري أنّ كلماتها تنطبق أيضًا على البازيليك نفسِها التي أنا جالس على رخامها! اقرؤوا بأنفسكم واحكموا:
“إنّه لجديرٌ بنا أن نَصيح أبدًا، ولا سيّما هذه الساعة: “باطلُ الأباطيل، كلُّ شيء باطل”. فأين تُرى شاراتُ القنصليّة وعزُّها الباذخ؟ أين تِلكم المصابيحُ المتألّقة؟ إلامَ آلَ ذلك التصفيقُ، وأجواقُ المغنّين والمادحين، وتلك المآدبُ الحافلة؟ أين الأكاليلُ والرِياشُ الفاخر؟ أين جَلَبةُ المدينةِ والتحيّاتُ في ميادين السباق وتَملُّقاتُ المتفرّجين؟ كلّها قد ذهبت. عصفتْ ريحٌ شديدة فنثرت أوراقَ الشَجَر وأبرزتها لنا مسلوبةً عريانة، مزعزعةً من جذورها؛ لأنّ الريحَ قد اشتدّ اصطدامُها فزلزلت العروقَ وكادت تقتلعُ الدوحةَ من أصولها. أين الأصدقاءُ المُدَاجون؟ أين مجالسُ الشراب، والمآدبُ الفاخرة؟ أين حشدُ الواغلين، وصرفُ المُدامِ المنسكبةِ مدى النهار؟ أين أفانينُ الطُهَاةِ المتلوّنة وخَدَمُ العظمة، مَن ترمي كلُّ أقوالهم وأعمالهم إلى تَصيُّدِ النِعم؟ كلّها كانت ليلاً وحُلمًا، توارت عند طلوع النهار؛ زهورٌ ربيعيّة ذَوَت بعدما انقضت أُوَيقاتُ الربيع؛ ظلٌّ امّحى، دخّاٌن تبدَّد، حَبَبٌ ذاب؛ خيوطُ عنكبوت وَهَت!”.
“آجيا صوفيّا”، اسم يونانيّ وترجمتُه: “الحكمة المقدّسة”. تُرى ما الحكمةُ الإلهيّة في أن يُصيبَ كنيسةَ “الحكمة الإلهيّة” مصيرٌ مشؤوم كهذا؟ هذا سرّ آخر من أسرار هذه الكنيسة-الأسطورة: هو أنّ مصيرها طَيُّ اسمِها!