مصطفى زين
يهدد ترامب حلفاءه الأوروبيين، يبتزهم في أمنهم. يعرف أنهم يخافون من أنفسهم، كما يخافون من روسيا. تؤكد ذلك تجربة الحربين العالميتين، وتدخل واشنطن فيهما. يلعب هذه الورقة بإتقان، يحولها إلى دولارات: «ادفعوا أكثر كي نحافظ على أمنكم».
في تموز الماضي، كاد ترامب أن يسبب أزمة كبيرة لحلف شمال الأطلسي الذي تقوده أميركا منذ الحرب العالمية الثانية. طلب من كل دولة عضو المساهمة باثنين في المئة من ناتجها القومي في موازنته و «إلا» اتخذ إجراءات قاسية ضدها، منها خفض المساهمة الأميركية. وقال للمشاركين في المؤتمر إن «الولايات المتحدة تضطلع بحمايتكم وتخسر البلايين كل عام». بعد هذا التهديد زادت الدول الأعضاء مساهماتها بما يعادل 266 مليون دولار سنوياً.
الآن يعود الرئيس الأميركي إلى لعب الورقة ذاتها، لكنه هذه المرة سيضاعف الأعباء على الأوروبيين بإعلانه الحرب الباردة على روسيا واتخاذه قراراً بإلغاء الاتفاق النووي المبرم منذ العام 1987 مع موسكو، ما يعني نشر المزيد من الصواريخ الباليستية في القارة وإجبارها على العودة إلى سباق التسلح. والحجة أن الكرملين لم يلتزم الاتفاق ويهدد أمن الجميع.
الأمين العام للأطلسي يانيس شتولتنبيرغ استبعد موافقة كل الدول الأعضاء في الحلف على نشر المزيد من الأسلحة النووية في القارة رداً على التحديات الروسية. وقال: «لا نريد خوض حرب باردة جديدة ولا نريد سباقاً جديداً للتسلح». لكنه يعرف تماماً أن هذه الدول شاركت منذ تسعينات القرن الماضي بمحاصرة روسيا من شرقها الأوروبي، ومن القوقاز وآسيا الوسطى وسيطرت على البحار والمحيطات وطرق التجارة، وأن رد موسكو المتأخر بدأت مفاعيله في التبلور من خلال استرجاعها القرم ومحاصرة أوكرانيا، والانطلاق إلى المياه الدافئة عبر إيران وسوريا، ما يعني أن الحرب الباردة أصبحت واقعاً لن يتم إيقافها بقرار من هذه الدولة أو تلك. ويعرف أن بريطانيا وألمانيا وفرنسا وهي الدول الأكثر فاعلية في الأطلسي ستمانع في البداية لكنها لن تخالف البيت الأبيض، فقال إن «معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى لن يكون لها تأثير ما لم يتم احترامها». وأضاف إن «الولايات المتحدة تحترم التزاماتها ولكن روسيا تنتهكها»، تاركاً المجال لمزيد من المفاوضات مع واشنطن. وأعلن إطلاق أكبر مناورات عسكرية في النروج منذ انتهاء الحرب البارد في «رسالة واضحة موجهة إلى جميع المعتدين».
إن تحدي ترامب القارة القديمة وإكراهها على اتخاذ قرارات في غير مصلحتها ليس جديداً، فهو يسعى إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي ولا يخفي ذلك لأن قوة الاتحاد الاقتصادية تساهم في استقلالية قراره، ويقف ضد بناء قوة عسكرية أوروبية كي تبقى القارة مرتهنة للحلف الأطلسي ولسياسات واشنطن، وسنداً لها في أي قرار تتخذه.
الواقع أن هذه السياسة لم تبدأ مع ترامب، بل هي استراتيجية أميركية ثابتة عبر العهود المختلفة، لكن للرئيس الخامس والأربعين تكتيكه الخاص وأسلوبه في التعاطي مع الحلفاء.
خوف أوروبا من نفسها يشبه خوف العرب من أنفسهم… وأميركا المنقذ الدائم.
الحياة اللندنية