الأب ميلاد جاويش
طلب موقع مراسلين يغطّون أخبار الأمصار ويجمعون شقاوات الساسة. يضطرّ هؤلاء إلى أن يدخلوا أحيانًا أزقّة السياسة ويكنسوا نفايات أهلها ويكتبوا في المحصّلة ما لا يلذّ لهم أن يكتبوه. أمّا أنا الذي يكتب على الموقع نفسه فلا أُجيد إلاّ أن أكون مراسل الإنسان. الإنسان خَبَري ومدار تغطيتي.
لمن لا يدري، الكهنة عندنا مستودع أسرار الناس. كثيرون يؤمّوننا لطلب نصيحة أو خدمة أو بكلّ بساطة كي نصغي إليهم. الناس تحتاج إلى من يصغي إلى جراحها… ونحن ليس لنا إلاّ إصغاؤنا ضمّادة وابتسامتنا مرهمًا. لجراحهم نُعيرهم جوارحَنا.
أسرار الناس ليست كلّها سمنًا وعسلاً. فمنها ما هو مؤلم وحزين وأحيانًا مخزي… أشعر أحيانًا بأنّني ككاهن “مكبّ نفايات” الناس. يأتون إليّ ويرمون عند قلبي همومهم وشجونهم. وأنا ما لي إلاّ مذبح الربّ كي أرفعها صلاةً إلى ربّي الشافي كي يشفي القلوب المتألّمة ويعزّي الخواطر المنكسرة ويضمّد الجراح المثخنة…
أكثر ما يؤلمني مثلاً أن أرى نفسي أمام زوجَين متخاصمَين يجرّحان بعضهما بعضًا أمامي. ليس ترفًا أن تسمع معاناتهما أو أن تراهما يتراشقان بأفظع النعوت. أين الودّ الأوّل؟ نسياه.
أن يُبقي الزوجان شُعلةَ الحبّ وقّادةً بينهما عبر السنين، فهذا هو التحدّي الأعظم، هذا هو “الجهاد المقدّس”. لا شيء مستحيل. المطلوب فقط “فَنُّ الحبّ”. كلُّ شيء في الحياة فنّ. تعلّمنا في الدير أنّك إذا أردتَ أن تطلب كأسَ ماء من أخيك، فيمكنك أن تطلبه بفنّ، بأناقة. فكيف الحال إذًا مع الحبّ؟
الفنُّ يُكتَسب، تتعلّمُه، تتدرّبُ على إتقانه. ومَن قال إنّ الشريكَين لا يحتاجان إلى أن يتدرّبا كيف يتحابّان، كيف يؤسِّسان ثُنائيًّا ناجحًا، كيف يعيشان معًا تحت سقف واحد؟ أقول “معًا”، لأنّه مِن المتزوّجين مَن يعيشون تحت سقف واحد من غير أن يلتقوا، كأعمدة البيت!
نقطة الانطلاق. ما جَمعَ الزوجَين يومًا ما قد تكون الصدفة أو القرابةُ الدمويّة والعائليّة أو زمالة الدراسة والعمل… لكن خلف هذه كلّها، هناك عنايةُ الله المدبّرة. إذا وقف الزوجان أحدهما إزاء الآخر وقال كلّ واحد لشريكه: “ما جمعني بكَـِ أكبر من لقاء عابر أو موعد “مُدبَّر”، بل يدُ الله التي تدبّر كلَّ شيء. قد يكون أن اعترى تعارفَنا نقصٌ ما، عيبٌ ما؛ قد يكون أن أخفيتُ عليكَـِ أمرًا ما، سرًّا دفينًا احتفظتُ به لنفسي؛ قد يكون أن تزوّجنا على عجلة من غير أن يعرف الواحدُ الآخر معرفة كافية كما يجب؛ قد يكون أنّي لو تأنّيتُ أكثر في خياري لكنتُ وجدتُ شخصًا أفضل منكَـِ، أجمل منكَـِ، أغنى منكَـِ، أهدأ منكَـِ… مع ذلك أقبلكَـِ لأنّ الله هو مَن وضعني في طريقكَـِ ووضعكَـِ في طريقي… أقبلكَـِ لأنّي قلتُ “نعم” ولا أريد أن أنكث بوعدي لك… ولله”.
ذات مرّة، نصحتُ زوجَين متخاصمَين أن يَصوما. تعجَّبا بدايةً من طلبي، لكنّهما فهمَا مقصدي بعد أن شرحت لهما ما علاقة الصوم بالحبّ. فَنُّ الحبّ يبدأ بالصوم. أن أصوم هو أن أضع حَدًّا لكلّ شيء: لشهيّتي، لشهوتي، للذّتي، لكبريائي، لخطيئتي… هو أن أعي أنّي لا أملكُ كلَّ شيء وأنّه يمكن ألاّ أحصلَ على ما أريد؛ هو أن أتدرّب أن أقول “لا” لكلّ ما تطلبُه نفسي لنفسي… الصوم هو أن أترك فسحةً لآخر، إنسانًا كان أم الله، لأتحاورَ معه، لأَسمعه ويَسمعني، لأُصغي إليه ويُصغي إليّ، لأنتبه إلى احتياجاته وينتبهَ إلى احتياجاتي…
لذلك تخيّلوا معي زوجَين يعرف كلٌّ منهما أن يضع حدًّا “لأَناه”، التي لو تُركَ الأمر لها لَجرفتْ معها كلَّ شيء؛
تخيّلوا معي زوجَين يعرف كلٌّ منهما أن يترك للآخر فسحةَ حياةٍ كي يوجد ويتنفّس ويعبّر عن نفسه بحرّيّة أبناء الله؛
تخيّلوا معي شريكًا يصوم عن كبريائه فيُدرك أنّ الحقّ يمكن ألاّ يكون دومًا حليفَه بل حليفَ شريكه؛
تخيّلوا معي شريكًا تدرّبَ على ألاّ يحصلَ على كلّ ما يريد في الوقت الذي يريد وبالطريقة التي يريدها، غير آبهٍ بمشاعر شريكه واحتياجاته؛
تخيّلوا معي شريكًا لا يخجل من أن يقول “لا” لسلطته، لعنفوانه، لجموح كرامته، فيعتذر حيث يجب أن يعتذر، ويتنازل حيث يجب أن يتنازل؛
تخيّلوا معي شريكَين “صائمَين” دائمًا عن الشرّ وشبه الشرّ، عن التجريح، عن الإساءة، عن التنكيل عندما يقع الآخر… لهذَين الشريكَين ملكوتُ السماوات!
الصوم أيضًا هو أن أجوع، أن أختبر “فضيلة” الجوع، لأنّه بالجوع تتولّد الشهيّة من جديد وتتفجّر الرغبةُ ثانيةً. فتاتةٌ صغيرة من الخبز الجافّ تُغريك عند الجوع أكثر ممّا تغريكَ أشهى الأطباق عند الشبع. لذلك تخيّلوا معي شريكًا “يجوع” إلى شريكه، يشتاق إليه دومًا، لا يملّ منه، لأنّه يتقن كيف يُشعل فيه الرغبةَ إليه في حال خَفَتَت فيه الرغبة؛ تخيّلوا معي شريكَين يقتنعان بما هما عليه، بما لدَيهما، بـ”فقرهما” الإنسانيّ والعاطفيّ والروحيّ والمادّيّ، فلا يتكبّر الواحد على الآخر، ويَصبرا ويتعاضدا ويَعِيَا جيّدًا بأنّه لا مفرّ من أن يَتوكَّأَ الواحدُ على الآخر…
الصلاةُ ملحُ الصوم. والصوم بلا صلاة، كطبقٍ شهيّ بلا نكهة. أيّها الزوجان، صَلِّيا كي تتملّحَ حياتُكما وتَحلوَ في عينَيكما وعينَي الله. استغفرا بعضكما بعضًا، وناما من غير أن تَغربَ الشمسُ على خلافكما… وفي الختام، بعد أن تَصوما صومَ المحبّة، افطرا فرحًا وتسبيحًا لله.