فاي فلام
يطلع الناس على كثير من المعاني المتعلقة بالحمض النووي، وما يتعلق بإليزابيث وارين وما يتعلق بهم أنفسهم. ولا يزال هذا المجال يحمل كثيرا من الغموض باعتباره مفتاحا للهوية والماهية والكينونة، ولمن ننتمي، ومتى سوف نموت، وكيفية الوفاة المتوقعة.
وقبل أيام فقط من إعلان إليزابيث وارين عن نتائج سلالة الحمض النووي الخاص بها، كانت عناوين الأنباء تحذر من تهديدات جديدة تتعلق بالخصوصية الجينية لجميع المواطنين. بيد أن الخبراء لم يقدموا أي أمثلة ذات جدوى لما قد يكشفه الحمض النووي بشأننا ولأي درجة يمكن لهذه المعلومات أن تلحق بنا الأضرار.
وجاءت التحذيرات بشأن الخصوصية من دراسة علمية تلك التي أعلنت أن المحققين أو المتسللين للحصول على مثل هذه المعلومات قد يعثرون على الهوية الحقيقية لأي شخص تقريبا من خلال عينة الحمض النووي الخاصة به. وبطبيعة الحال، إن ارتكبت عملا من أعمال القتل أو الاغتصاب وتركت عينة من حمضك النووي في مسرح الجريمة، فإن قدرات مضاهاة أو مطابقة الحمض النووي من شأنها المساعدة في الكشف عن هوية الجاني. والمحققون الذين عملوا على إحدى القضايا المهمة وسيئة السمعة كذلك، قضية غولدن ستيت كيللر، اكتشفوا أنه بإمكانهم الاستفادة كثيرا من تلك البيانات. فلقد توفرت لديهم عينة الحمض النووي للقاتل، ولكن لم تتحقق المضاهاة والمطابقة المنشودة مع أي من المشتبه بهم.
لأجل ذلك، قام المحققون بتلفيق عميل مزيف لأحد مواقع خدمات التحقق من الأنساب على شبكة الإنترنت، وعثروا على مطابقات جزئية غير كاملة لبعض الشخصيات التي من المرجح أن تكون على علاقة قرابة عائلية مع شخصية القاتل، وبعد ذلك وجدوا مصدر عينة الحمض النووي من خلال تتبع شجرة عائلته. تقول الدراسة العلمية المذكورة آنفا إن هذه القضية لم تلق كثيرا من الحظ. فمن شأن الاستراتيجية نفسها أن تنسحب على تعقب أصول 60 في المائة من المواطنين من أصول أوروبية. ومع ارتفاع عدد الأشخاص الذين يشتركون في خدمات التحقق من الأنساب، سوف يرتفع العدد ليشمل الجميع تقريبا.
وطغت النغمة الكئيبة نفسها على دراسة علمية أخرى نُشرت في الأسبوع نفسه في دورية «الخلية» العلمية. وفيها، أثبت العلماء أنه من الممكن ربط عينات الحمض النووي التي تم جمعها من خلال وكالات إنفاذ القانون بالعينات التي تحتوي على أنواع أخرى من المعلومات الجينية، واستخدام الجميع ليس في مضاهاة الشخصيات الذين تطوعوا بعينات الحمض النووي ولكن أيضا أفراد العائلات الذين لم يفعلوا ذلك.
ومن الشواغل المهمة في هذا الصدد، ومن حيث المبدأ، فإنه يمكن لأحد الأشخاص استخدام الأساليب نفسها في الكشف عن هوية الأشخاص الذين تبرعوا بعينات الحمض النووي لصالح الدراسات العلمية. ولكن يُحظر، بموجب القانون، على أي شخص استخدام أي من المعلومات الجينية ضد المتبرعين.
وبالعودة إلى تسعينات القرن الماضي، شعر العلماء وأنصار الأخلاقيات الطبية بالقلق الكبير من أن نظام التأمين الصحي قد يرفض توفير التغطية التأمينية بسبب عوامل الخطر الجينية الكامنة، وقد يؤدي ذلك بأرباب الأعمال إلى فصل الموظفين من أعمالهم بسبب الحمض النووي الخاص بهم. وهكذا، اعتمدت الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من البلدان الأخرى سن قوانين حظر التمييز على أساس جيني.
فما النتائج التي تمخض عنها ذلك؟ سألت بارثا ماريا نوبرز، أستاذة القانون ومديرة مركز علوم الجينوم والسياسات في جامعة ماكجيل الكندية، فأجابت قائلة: «لم تكن هناك مشكلة حقيقية مع التمييز الجيني. وربما يرجع السبب في ذلك إلى أن الشركات تحترم القانون. ولكن أيضا، أثبت الحمض النووي أنه أدنى كثيرا من حيث التنبؤ مما يظنه الناس».
وهناك نسبة قليلة للغاية من الناس ممن يحملون قنابل جينية موقوتة، مثل مرض هنتنغتون، أو الطفرات الجينية المرتبطة بارتفاع مخاطر الإصابة ببعض أنواع الأورام السرطانية. وبالنسبة لمعظم الناس، فإن حالتنا الصحية مرتبطة بكثير من الجينات والعوامل البيئية المختلفة، مثل التعرض للتلوث، والتوتر، والنظام الغذائي، وإلى حد ما الفرص العشوائية غير المنتظمة للإصابة بالأمراض.
وقالت الدكتورة نوبرز إن المخاوف التي اندلعت بسبب هذه الدراسات الجديدة قد توقف المشاركات المجانية للبيانات التي أصبحت مهمة للغاية في التعاون الدولي في مجالات العلوم. ويجب إبلاغ المتبرعين أنهم إن تبرعوا بعينة الحمض النووي لصالح دراسة من الدراسات، فمن المحتمل بصورة افتراضية أن يتم تحديد هويتهم من خلالها. ولكنها تبقى مشكلة عند المستوى الافتراضي فحسب.
وأشارت التقارير الإخبارية أيضا إلى خطر أن استخدام العلوم الجينية قد يؤدي بالشرطة إلى إلقاء القبض على الأبرياء. وعندما كنت أُجري الأبحاث لأجل مقالة سابقة حول تداعيات قضية غولدن ستيت كيللر، قال الخبراء إن هذا الأسلوب سوف يساعد المحققين في الإمساك بالجاني الحقيقي، طالما أن هناك عينة كاملة من الحمض النووي في مسرح الجريمة، ويمكنهم مطابقتها بالحمض النووي مباشرة من أي مشتبه فيه يجري تعقبه من خلال شجرة العائلة خاصته. ولقد ساعد الحمض النووي على تحرير الأبرياء، وجذب الانتباه إلى المشكلة القائمة في الإدانات القضائية الخاطئة.
كما ساهم الحمض النووي كذلك في الإدانات القضائية الخاطئة، في القضايا التي حاول فيها المحققون استخدام الشظايا الدقيقة المتبقية من أحد الأشخاص الذي لمس بالكاد جسم الجريمة، أو خلائط الحمض النووي من مختلف الشخصيات ذات الصلة. ولكن هذه مسألة مستقلة تماما.
وبعيدا عن علوم الطب الشرعي، أحدث الحمض النووي ثورة في فهم التطور ومن أي الأصول انحدرنا كجنس من الأجناس التي تسكن الأرض. وهل هناك حدود لما يمكن للحمض النووي الكشف عنه بشأن أي شخص معين. ومنذ أن عمدت إليزابيث وارين إلى نشر سيرته الجينية كاملة، فإن نتائج الاختبار تخرج ببيانات مختلفة لدى كل شخص من الأشخاص. ويقول المؤيدون إن النتائج أثبتت أن السيد وارين من المواطنين الأميركيين الأصليين، في حين يقول المعارضون إن النتائج أثبتت العكس تماما، وإنها لا تملك إلا القليل من السلالات الأميركية الأصلية المؤهلة لها.
فما الذي يقوله علماء الجينات الوراثية؟ نقلت التقارير الإخبارية كثيرا من المباهاة بمدى دقة اختبارات الحمض النووي في الوقوف على المساهمات الضئيلة التي ساهم بها الحمض النووي في حياة الناس. ولكنهم عجزوا عن الإجابة عما إذا كانت نتائج السيدة إليزابيث وارين تؤهلها للانضمام إلى هوية المواطنين الأميركيين الأصليين. وهذا خط تحدده الثقافات وليس العلوم.
نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط* بالاتفاق مع «بلومبرغ»