كيرلس عبد الملاك
جرجس بارومي، شاب قبطي يعيش في مركز نجع حمادي بمحافظة قنا الكائنة في صعيد مصر، في عام 2010 ادعت فتاة مصرية مسلمة لها من العمر 12 عامًا بأنه اغتصبها في طريق عام نهارًا جهارًا دون وجود أدنى دليل على ادعائها، فصدر حكمًا متهورًا على الشاب القبطي بالسجن المشدد لمدة 15 عامًا إلى جوار إلزامه بدفع غرامة مالية، وقد كُشفت مفاجأة من العيار الثقيل تخص ذلك الشاب هي أنه مريض بالعنة ما يجعله عاجز جنسيًا وذلك العجز يمنعه من إقامة علاقة جنسية بأي صورة منعًا تامًا أي أن العنصر الرئيسي لحدوث جريمة الاغتصاب غير موجود، وذلك الوضع تم إثباته من خلال تقرير صادر عن الطب الشرعي المصري الذي أكد أيضًا بأن الاغتصاب لم يحدث بعد الكشف على الفتاة المدعية، وبرغم الإقرار بعدم حدوث الاغتصاب وبرغم الحرج الكبير في كشف تلك المعلومة “المتعلقة بالعجز الجنسي” التي تمس سمعة الشاب وتؤثر على حياته المستقبلية والتي من المفترض أن تقلب القضية رأسًا على عقب لصالحه إلا أن الوضع لم يتغير قيد أنملة فبقي في محبسه مظلومًا مكلومًا إلى يومنا هذا.
أسرة الشاب جرجس بارومي، تلك الأسرة الفقيرة البسيطة المتهالكة، ناشدت الرئيس عبد الفتاح السيسي أكثر من مرة، طالبة منه التدخل لوقف الظلم عن ذلك الشاب رحمة به خاصة وأن الرئيس المصري يعكف بشكل دائم على استخدام العفو الرئاسي لتحرير مسجونين كثيرين في قضايا متنوعة شفقة بهم بالإضافة إلى عفوه عن الكثير من الغارمين والغارمات، بينما لم تأتي هذه المناشدات “برغم ما حملته من بكاء وحسرة وأمل في تحقيق العدالة” بأي ثمار طوال الفترة الماضية.
الطائفية ليست حالة جديدة في المجتمع المصري، لكنها حالة متغلغلة فيه سواء على النحو المؤسسي أو على النحو العرفي والفردي، وأبسط مثال على مظاهر وجود هذه الحالة الجلسات العرفية التي تُنظم تحت إشراف الأمن المصري بعد كل اعتداء غوغائي على الأقباط يكون أبطاله مسلمين من العوام حيث تنتهي تلك الجلسات المُهينة بتنازل الأقباط عن حقوقهم القانونية بالإجبار “من خلال التهديد والوعيد” فقط لأن المجرمين المعتدين عليهم يدينون بالإسلام، والحجة الرئيسية لفرض هذه النوعية من الجلسات القبلية هي الجنوح إلى السلام والتآلف والتآخي بين عنصري الأمة “المسلمين والمسيحيين” ووأد الفتنة الطائفية، على الرغم من أن هذه الجلسات تؤجج الفتنة لأنها تقنن ظلم الأقباط وتخلق له مساحة عرفية على أرض الواقع فتشجع المتشددين على أفعالهم الإجرامية المتطرفة لعدم وجود حسم وعقاب رادع لهم ولجرائمهم، مع العلم أننا إذا بدّلنا الأدوار وصار المعتدي قبطي ربما نجده مذبوحًا بلا عقاب للجاني أو مطرودًا من بلدته ولو كانت جريمته مجرد شائعة ليست لها أي أساس من الصحة أو ادعاء ليس له دليلا من الواقع.
لا أعرف على وجه الدقة واليقين لماذا لم يُقدم الرئيس عبد الفتاح السيسي على إدراج الأقباط المسجونين ظلمًا في السجون المصرية في قوائمه الخاصة بالعفو الرئاسي طوال السنوات الماضية، هل يخشي من اتهامه بالانحياز للأقباط المختلفين مع غالبية المصريين في العقيدة الدينية أم أنه يشترك في النظرة الدونية الطائفية ضدهم المتغلغلة في المجتمع المصري منذ مئات السنين؟
مع بداية عهد الرئيس السيسي ظن عدد كبير من الأقباط أنه الرئيس الأفضل على الإطلاق عبر تاريخ مصر فيما يتعلق بالانتصار لقضيتهم التي تنحصر متطلباتها في العدالة والمواطنة الحقيقية بالمساواة مع المسلمين، لكنهم بمرور الوقت اكتشفوا استمرارية التهميش واقتصار انتصار رئيس الدولة لقضيتهم الإنسانية والوطنية على مجرد كلمات معسولة وجمل منمقة لبقة تلقى على مسامعهم في المناسبات بيضاء كانت أو سوداء بينما لا يوجد لها أثر على أرض الواقع، وعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما تعرّت السيدة القبطية المُسنة سعاد ثابت واعتُدي عليها وعلى بيتها من قبل بعض الغوغاء في جريمة طائفية شهيرة جرت في محافظة المنيا أشار الرئيس السيسي إلى تضامنه معها بكلمات حماسية تدعم العدالة والحق فتعالت التصفيقات من الحاضرين وبرزت الإشادات من المتابعين، أما ما حدث على أرض الواقع كان منافي تماما للتضامن الرئاسي فقد طُردت هذه السيدة العجوز من بيتها وبلدتها ورحلت إلى مكان مجهول خوفا من تتبع المعتدين، وسُجن ابنها بعد أن لُفقت له جريمة لم يفعلها، أما المعتدين عليها وعلى بيتها ومتهمين ابنها بالظلم فتُركوا أحرار طلقاء في ظل صمت مطبق من أجهزة الدولة المصرية ومؤسسات العدالة فيها.
جرجس بارومي يعد أيقونة ضمن أيقونات ظلم الأقباط في العصر الحديث لكنه ليس الأيقونة الأولى ولن يكون الأخيرة طالما لا توجد خطوات جادة حاسمة نحو العدالة والمواطنة الحقيقية داخل مصر، تلك المواطنة التي لا تفرق بحسب الدين، ولا تظلم بحسب العقيدة.
توضيح:
عندما هممت بالكتابة عن ظلم الأقباط في مصر، السلالة الأنقى للفراعنة أهل مصر الأصليين، والذين أتشرف بأنني واحد منهم، ترددت بين موضوع وآخر وبين قضية وأخرى لكثرة قضايا الظلم التي يتعرضون لها في الوقت الحالي، فها هي قضية حصار دير “أنبا صموئيل” في محافظة المنيا من قبل الأمن المصري ذاك الحصار الذي يمنع وصول الاحتياجات المعيشية للرهبان، فبدلا من أن يؤمّن الأمن المصري ذلك الدير بعد تعرُض زواره للإرهاب والقتل مرتين خلال سنتين متتاليتين راح يحاصر الرهبان ويمنع عنهم الطعام واحتياجاتهم المعيشية كأنه يدعم بذلك الأسلوب إرادة الإرهاب في فرض الترويع والخوف والقيود على الرهبان وزائريهم! وها هي قضية سجن راهبين ومحاكمتهما بتهمة قتل رئيسهما الديني، أنبا إبيفانيوس رئيس دير أنبا مقار، ظلما، المحاكمة التي انكشف أثناء سريانها أمام القضاء المصري تلفيق الجريمة للراهبين من خلال محاضر مفبركة وأحكام غير دقيقة من الطب الشرعي، وغيرهما من القضايا الطائفية الممتدة والمتكررة عبر الزمن مثل اختطاف القبطيات وأسلمتهن والتمييز ضد الأقباط في مواد القانون وأمام القضاء المصري، والتحريض العلني ضد الأقباط من خلال المنابر الإسلامية.. إلخ
لا أظن أن قضايا ظلم الأقباط ستنتهي على الأرض المصرية إلا بثورة سياسية وتشريعية تنسف القواعد القديمة والمباديء البالية القائمة على التمييز ضد غير المسلمين، وهذه الثورة تحتاج إلى إرادة حقيقية في نقل مصر إلى مصاف الدول المتقدمة، وهنا لابد أن أذكر تونس الدولة العربية الشقيقة بلسان التقدير، لأن قيادتها السياسية استطاعت أن تفرض العدالة في ملف المواريث من خلال تفعيل المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، كما منحت الحق للمرأة المسلمة في أن تتزوج من غير المسلم بنظرة العدالة والمساواة لا بنظرة التسيب والانحراف، لأنها تفهمت أن إقحام القواعد الدينية في القانون يجعل منه قانونا عنصريًا وطائفيًا ليس لنقص أو ظلم في الدين إنما لاختلاف في طبيعة الدين “الكامل لدى المؤمنين به” وطبيعة القانون “الذي يحكم مواطنين متعددين المذاهب والأديان ووجهات النظر” ومالم يتحقق ذلك التفهم للتعددية ستبقى الدولة في مسيرها إلى أسفل على منحدر الفشل بلا توقف.