أقلام يورابيا

بين سليم وسليمان

الأب ميلاد الجاويش

الأب ميلاد الجاويش

خرج سليم إلى الشرفة ليرتشف القهوة مع سليمان. قبل أن يصل، رأى أنّ على الصِينيّة فنجانًا واحدًا، فقال في نفسه: “ما قلّة الذوق هذه، لم يجلب لي فنجانًا لأشاركه القهوة!”. اقترب سليم فوجد أنّ خلف الركوة فنجانًا آخر لم يَرَه من الجهة التي أتى منها.

مَن يدرس علمَ الرواية، يتوقّف غالبًا عند “وجهة النظر” (Point of View) ليعرفَ بعين مَن تُسرَد الرواية: هل بعين الراوي أو بعين أحد شخصيّات الرواية؟ في الكتاب المقدّس مثلاً، يصف سِفرُ صموئيل اللقاء الأوّل بين جُليات الجبّار وداود الراعي: “وتطلَّعَ الفَلِسطيُّ ورأى داود، فاحتقرَه، لأنَّه كان ولدًا أصهبَ جميل المنظر” (1 صم 17: 42). تُروى الرواية هنا بعين جُليات ليرى القارئ ما يراه هو. في وجهة النظر هذه إشارةٌ خفيّة إلى أنّ أحد أسباب اندحار جليات هو أنّه ما رأى في داود إلاّ كونه غلامًا حقيرًا أصهب جميل المنظر، لذلك فات عليه خطرُ أن يبارزه شابٌّ خفيف الحركة رشيق الخُطى. مثلٌ آخر من عالم الأفلام: كلَّ مرّة يُرينا المخرج أحدَهم ينظر بالمنظار، ينقلُ من ثمّ ما كان يرى من خلاله.

خلاصة الكلام أنّ الحقيقة نصفُها وجهة نظر. ولكلّ إنسان وجهة نظره. ما تراه أنت حقيقةً قد لا أراه أنا، أو على الأقلّ لا أراه حقًّا بالقدر الذي أنت تراه فيه. نسمع مثلاً أنّ حبّ الوطن حقيقة دامغة وليس وجهة نظر. صحيح، لكن “كيف” نحبّ الوطن، فهذا وجهة نظر. لو أدرك مَن يتصارعون، أشقّاء كانوا أم جماعات أم شعوبًا، أنّ لكلّ منهم وجهة نظر يرى الحقيقة من خلالها، لكانوا التقوا على كلمة سواء وتفهّم الواحد رأي الآخر.

****

في صمت كنيستي أتأمّل هذه الأيّام رسالة القدّيس بولس إلى أهل أَفَسُس. أن تتأمّل نصًّا لبولس الرسول، فأنت أمام آياتٍ من الجمال الأخّاذ. كلماته القويّة تخلّع أبواب نفسك وأمخال قلبك.

لفتتني آية ضائعة بين الكلمات: “اعملوا للحقيقة بالمحبّة” (أف 4: 15). الحقيقة، ومَن منّا لا يبتغيها؟ من منّا لا يدّعي أحيانًا امتلاكها؟ الحقيقة بلا محبّة تُمسي، مع سطوعها، كخرقة طامث.

المحبّة تلطّف الحقيقة. أنت الحقّ معك، لكن بلا محبّة ينقلب الحقّ عليك.

في بلادنا، كثيرون يدّعون الحقيقة، لكن أين هم من المحبّة؟

في عائلاتنا، كثيرون يتخاصمون باسم الحقيقة، لأنّ المحبّة مرميّة على الرفوف.

بين الأزواج، كثيرون يتناهشون لأنّ المحبّة هجرت المخادع.

إنّ قلّت المحبّة في البيوت، قلّ الخير في المعاجن.

إن نَدرت المحبّة في العالم، تصبح الحقيقة متوحّشة.

****

الحياة أحيانًا حلاوتها في بساطتها. البساطة دواء لتعقيداتها. والمحبّة بسيطة.

الشرّ يعقّد، يحلّل كثيرًا، يضرب ويحسب، يطرح وينقّص. أمّا المحبّة فتجمع.

أحيانًا كثيرة أرغب في مدح البساطة. بقدر ما تعقّد عالمنا وتعقّدت معه مشاعرنا وعلاقاتنا، بقدر ما أرغب في العودة إلى البساطة، بساطة أقحوانة الربيع، بساطة الشيوخ القدماء، بساطة ولد القرية النائية.

****

“إعملوا للحقيقة بالمحبّة”، ليت هذه الآية تكون شعار العالم، برؤسائه ومرؤوسيه. الحقيقة والمحبّة، كلمتان تصنعان العجائب إن جُمِعَتا. الحقيقة أحيانًا وجهة نظر، أمّا المحبّة فهي الحقيقة الثابتة إلى الأبد.

بعد أن روى لنا سليم ما حدث معه في تلك الصبيحة، أردف: “خجلتُ وندمت على حكمي المسبق على سليمان… يومها رددتُ له صاعَ المحبّة صاعَين”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق