عريب الرنتاوي
تسلك التحقيقات في قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، طريقين متوازيين: الأول؛ وتقوده أنقرة، ويتجه نحو “التدويل”، ونقل ملف القضية برمته إلى الأمم المتحدة… والثاني؛ ويتركز في الكونغرس الأميركي، حيث يظهر نواب وشيوخ، إصرارا متزايدا على كشف الحقيقة، ومعاقبة المتسببين بالجريمة، أياً كانت مواقعهم ومسؤولياتهم، ودائما في إشارة إلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. توج ذلك الطريق مؤخرا، بإجماع نادر للكونغرس بحزبيه، على إدانة محمد بن سلمان وتحميله مسؤولية قتل خاشقجي.
تركيا، وجريا على استراتيجيتها في ملاحقة مختلف فصول التحقيق، لا تريد أن تذهب لخيار “التدويل” منفردة، لتفادي الأسوأ في علاقاتها الثنائية مع الرياض، ولذلك رأينا وزير خارجيتها، يبحث عن شركاء لبلاده، وقد أبدت كندا حماسة ظاهرة، لمرافقة أنقرة على هذا الطريق، وربما تلتحق دول أخرى بهما.
أما الولايات المتحدة، فما زالت تشهد “معركة مكاسرة الإرادات” بين إدارة ترامب من جهة والكونغرس بحزبيه وغالبية أعضاء غرفتيه من جهة ثانية. المرجح أن هذه المعركة ستطول، وسيكون لنتيجتها، تأثير كبير على مستقبل العلاقات السعودية ـ الأميركية، بل ومستقبل الأمير شخصيا، علما بأن كلا الجانبين، السعودي والأميركي، يبديان اهتماما فائقا، بتحييد جريمة قتل خاشقجي عن الملف الشائك والمعقد لهذه العلاقات.
والحقيقة أن الرياض، وولي العهد على وجه التحديد، يواجهان جملة من الخيارات في التعامل مع واحدة من أكبر الأزمات في العلاقات الأميركية ـ السعودية، منذ تأسيسها قبل سبعة عقود أو يزيد، والواضح أن المملكة لم تحسم خياراتها بعد، وإن كانت تستعد لأكثرها سوءا:
الخيار الأول؛ أن تنجح إدارة ترامب في كبح جماح الكونغرس والإعلام، أو أن تدير ظهرها لقراراته “غير الملزمة”، وأن تبقى على موقفها الرافض توجيه أصابع الاتهام لولي العهد السعودي ومحاسبته، مستفيدة من الصلاحيات الكبرى التي يمنحها الدستور للرئيس الأميركي. هنا ستتاح للملكة وولي العهد، الفرصة لإدامة الوضع القائم، وتفادي التغيير في الأشخاص وإلى حد كبير في السياسات… وسيترتب على الخيار، استمرار حالة الضعف والتردد التي تتفشى في أوساط خصوم الأمير ابن سلمان، سواء داخل العائلة ومجتمع الأعمال أو في الأوساط الدينية والقبلية المحافظة.
لكن هذا السيناريو، سيجعل من الأمير “بطة عرجاء”، وسيكون عرضة للابتزاز الدائم، وسيدو أكثر ميلا للمساومات والمقايضات، وستدخل مشاريعه الاقتصادية والمالية العملاقة في نفق الجمود والمراوحة، وهو ذاته اعترف بذلك عندما عبر مؤخرا عن تشاؤمه في فرص إنجاز مدينة “نيوم” وخطة 2030 في مواقيتها المقررة، جراء الاستنكاف المرجح للمستثمرين والشركات عن المشاركة في مشاريعها العملاقة.
كلفة هذا السيناريو، ستكون الأقل على الأمير شخصيا، في حين أنها ستكون باهظة على المملكة وبرنامجها الطموح للانتقال من دولة الريع إلى دولة الإنتاج، وتنويع مصادر الدخل والثروة في بلاد اعتمدت منذ نشأتها على النفط كسلعة استراتيجية.
الخيار الثاني؛ أن يفرض الكونغرس والإعلام ومنظمات حقوق الإنسان على إدارة ترامب، الذهاب إلى نقطة أبعد من تلك التي بلغتها حتى الآن، وتنضم الإدارة إلى القائمة الطويلة للمطالبين بمحاسبة ولي العهد وحكومته على الجريمة النكراء، والانضمام ـ ربما ـ إلى مسعى “التدويل” الذي تقوده تركيا، وفرض عقوبات على المملكة وولي العهد وعدد آخر من كبار المسؤولين في العائلة والحكومة، فتتسع بذلك دائرة الدول التي ستخرج عن ترددها، وترتفع الأصوات المطالبة بعزل ولي العهد وتقديمه للمحاكمة.
هذا الخيار، سيطلق ديناميكيات جديدة داخل العائلة، وسترتفع الأوضاع التي تطالب بإنقاذ العائلة والمملكة، حتى وإن تطلب ذلك “التضحية” بالأمير القوي، وستكون المفاضلة المطروحة عليه من قبل خصوم الأمير: أنت أو العائلة والمملكة، وسيضيق الخناق حول الأمير والفريق الذي يدعمه ويؤازره.
لكن ذلك، لا يعني تلقائيا، أن صفحة محمد بن سلمان ستطوى صبيحة اليوم التالي للتحول المفترض في موقف إدارة ترامب. فأحداث السنوات الثلاث الأخيرة، تكشفت عن جملة من حقائق السياسة الداخلية السعودية وتوازناتها، من بينها:
1ـ أن العائلة على امتدادها وكبر عدد أعضائها، ليست على قلب رجل واحد ولا تتمتع بالسطوة والسلطة التي كان يُعتقد أنها تمتلكها، فقد أبدى أمراء كبار وأنجال ملوك سابقين أنهم أضعف من أن يواجهوا الأمير الصاعد بقوة والمستحوذ على كافة أوراق القوة والسلطة والثروة في البلاد.
2 ـ أن المؤسسة الدينية السعودية، التي قيل بشأن سطوتها ونفوذها الشيء الكثير، تتوفر على قدر من “الانتهازية” والضعف، ما جعل كبار رجالاتها، “يفتون” بالشيء ونقيضه خلال فاصل زمني قصير للغاية. وما ينطبق على المؤسسة الدينية، ينطبق بدرجة أكبر على المؤسسة الإعلامية والثقافية، التي نجح الأمير الشاب في جمع مفاتيحها في جيبه.
3 ـ استناد الأمير إلى شبكة تحالفات إقليمية مؤثرة (الإمارات، مصر وإسرائيل)، ستجعله دائم الرهان، على قدرة هؤلاء الحلفاء على توفير “خشبة خلاص” تخرجه من عنق زجاجة ضيق، وضع نفسه فيها، ذات قرار أرعن.
4 ـ أما الورقة الأكثر أهمية التي يعوّل عليها الأمير (المتهم)، فتتمثل في المقدرات الهائلة التي تتوفر عليها بلاده، ماليا ونفطيا وتجاريا، والتي تكفي دائما لـ”إسالة لعاب” الشركات الكبرى، الممسكة إلى حد كبير بتلابيب القرار في السياسة الخارجية في عدد وافر من الدول الصناعية الكبرى.
ثمة مؤشرات دالّة على أن الأمير لن يستسلم لـ”قدره”، وأنه لن يرفع الراية البيضاء من دون خوض معارك قاسية للبقاء، وقد أظهر حتى الآن، وقبل إجماع الكونغرس على إدانته، أنه سيحاول استنفاذ كافة الأوراق التي بيده، ومن بينها:
أولا؛ قبول المملكة بخفض الإنتاج العالمي من النفط، بقيمة إجمالية قد تزيد عن المليون برميل يوميا في السنة المقبلة، وبما يفضي إلى ارتفاع أسعار النفط أو وقف انخفاضها، بالضد مما تريده إرادة إدارة ترامب. واللافت أن التنسيق بين الرياض وموسكو في سوق النفط قد بلغ معدلات غير مسبوقة في الأسابيع القليلة الفائتة، في رسالة “سياسية” بامتياز، لا تخفى مراميها على المراقب والمتابع.
ثانيا؛ الإيعاز للماكينة الإعلامية الضخمة التي تتوفر عليها المملكة ويتحكم بها الأمير الشاب، للتلويح بخيار “تنويع التحالفات ومصادر التسلح”، والتوجه لبناء شراكات استراتيجية مع كل من الصين وروسيا، وصولا إلى حد التلويح بمنح موسكو قاعدة عسكرية على الأرض السعودية، ودائما في محاولة لاستنفار لوبي الصناعات الحربية والنفطية في الولايات المتحدة، وإسالة المزيد من “الأدرينالين” في عروق إدارة ترامب من مغبة انتقال ثاني أهم “حليف استراتيجي” لواشنطن في المنطقة، بعد إسرائيل، من خندق التحالف معها، إلى خندق الشراكة مع بكين وموسكو، حتى وإن كان خيار كهذا غير مرجح، ودونه عقبات وعوائق تتخطى المال والأعمال، إلى الأمن والسياسة.
ثالثا: ثمة ما يشي بأن الأمير قد يفكر بالإقدام على خطوة نوعية، من العيار الثقيل، من شأنها إعادة صياغة المشهد الشرق أوسطي برمته، وربما بحجم زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات لإسرائيل في العام 1977، كأن يقدم على استقبال نتنياهو في الرياض أو القدس، أو الالتقاء به في عاصمة دولة ثالثة وعلى نحو علني يبعد عنه صورة “قاتل خاشقجي”، ويضفي عليه صورة “صانع السلام”.
أمر كهذا، تفكر به جديا “خلية الأزمة” التي تعمل على تصفية آثار وتداعيات جريمة اغتيال خاشقجي، لكن القرار النهائي لم يصدر بعد، على ما يبدو. فخطوة كهذه، يمكن أن تحدث أثرا عكسيا وقد يترتب عليها تداعيات يصعب احتمالها. لكن المؤكد أن تجربة الرئيس السوداني عمر حسن البشير حاضرة بقوة في أذهان صناع القرار في الرياض، فالرجل “المطارد” من محكمة لاهاي بتهم مقارفة جرائم حرب، يعاد تأهيله مجددا، أميركيا ودوليا، بعد أن قرر الابتعاد عن طهران والاقتراب من إسرائيل وتوثيق عرى التحالف مع السعودية والإمارات في الحرب على اليمن، وهو يعمل على تعديل دستور بلاده، لتمكينه من الترشح لولاية خامسة في انتخابات العام 2020.
أيا كانت طرق المملكة وخياراتها في التعامل مع واشنطن، فإن الأمر المؤكد أن السعودية بعد “خاشقجي”، لن تعود كما كانت قبله. والأرجح أن السنوات القليلة القادمة، ستشهد تبدلات “دراماتيكية” في سياساتها وأدوارها ومواقعها، بعد سبعين عاما من الرتابة والركود.
الحرة