أقلام مختارة

تعددت الرقصات والإحساس واحد (1)

منصور الحاج

منصور الحاج

يحتل الغناء والرقص مكانة كبيرة في نفوس الشعوب والمجتمعات عبر الأزمنة والعصور. دأب الأفراد والجماعات على الرقص إحياء للمناسبات الاجتماعية والدينية، السعيدة والحزينة على حد سواء، وتوثيقها عبر التمايل على أنغام الموسيقى والتعبير بأجسادهم عما يختلج في دواخلهم.

على الرغم من وجود كم هائل من التراث الذي يتوعد من يشترون “لهو الحديث” ويتخذون “المعازف” وسيلة للتعبير، إلا أن المجتمعات الإسلامية حافظت على علاقتها بالغناء والرقص في إحياء مختلف المناسبات دون اعتبار لما ينتظرها من عذاب صورت تفاصيل بشاعته الأحاديث النبوية.

ولكوني من القلائل المحظوظين الذين تنقلوا بين عدد من البلدان الإسلامية وأتيحت لهم الفرصة للتعرف على عادات وثقافات مختلفة، لاحظت تباينا في ألوان التعبير عن المشاعر عبر الرقص والغناء، يختلف بقدر تمسك المجتمعات بتراثها التقليدي وتأثرها بالمد الوهابي المعادي لكل أشكال الإبداع، خاصة تلك التي تتطلب اختلاطا بين الذكور والإناث واستعمالا للمعازف وآلات الطرب؛ إلا أن الشعور الناجم عن ممارسة الرقص يظل واحدا مهما اختلف الزمان والمكان.

شخصيا، تأثرت كثيرا بالتعاليم الوهابية المتشددة بحكم نشأتي في معقل التشدد الوهابي وتأثري بالتيار الصحوي الذي تمكن من غرس كراهية الفن في دواخلي منذ نعومة أظافري. بعد اعتناقي السلفية الوهابية في سن المراهقة من خلال حلقات تحفيظ القرآن، التي كنت أحد روادها الملتزمين منذ طفولتي. قمت باستبدال أشرطة الكاسيت الغنائية بمحاضرات مشايخ الصحوة وتلاوات القراء، كعلي عبد الله جابر وعبد الرحمن السديس وعلي الحذيفي وأناشيد “نداء وحداء” الإسلامية.

ولأن الطبيعة البشرية مجبلة على حب الفن والرقص، فقد تأثرت أيضا بلون من الإبداع فشلت السلفية الوهابية في القضاء عليه، على الرغم من الفتاوى التي تعتبره لونا من ألوان الوثنية وعبادة للنار، ألا وهو رقصة المزمار والأهازيج الغنائية المصاحبة له التي يمارسها الحجازيون في المنطقة الغربية في السعودية.

أول عهدي برقصة المزمار كان في فترة المراهقة، وبالتحديد عندما بدأت في التحرر من قيود التيار السلفي والانفتاح على العالم وما فيه من تنوع واختلاف. لن أنسى أبدا ذلك الإحساس الذي شعرت به وأنا أقترب من الساحة التي نظم فيها قادة حي “الكرنتينة”، الواقع في أقصى جنوب مدينة جدة، مزمارا دعوا إليه شباب الأحياء المجاورة. قرعت الطبول وعلت أصوات أصحاب الحناجر القوية لتصدح بـ”الزواميل” الشجية مرددين أبياتا شعرية في فضل الشجاعة والإقدام والكرم والحب والغرام.

كان المنظر مهيبا حين رأيت النار تستعر في وسط الساحة وصفوف “المزمرجية” المتراصين حولها، فيما ينهمك قارعو الطبل في الضرب على الدفوف المختلفة بين “نقرزان” و”طار” و”مرد” فيما تعلوا أصوات “المزمرجية” بالغناء خلف صوت منشد “الزومان”.

وعلى عكس غالبية “المزمرجية”، الذين كانوا يحملون عصي قوية، كنت أمسك بعصى مكنسة رفيعة ولا أدري كيف استجمعت قواي وانتظرت دوري للتقدم نحو الساحة والدوران حول النار مرتين في اتجاه معاكس لسير جاري وصديق طفولتي مرتضى الذي كان يجهل أساسيات رقصة المزمار.

كان ذلك أول عهد لي برقصة المزمار. وكانت تجربة رائعة شعرت فيها بأنني جزء من منظومة اجتماعية كانت وما زالت من أهم الشرائح الاجتماعية في المنطقة الغربية في السعودية.

حين انتقلت للعيش في تشاد، تعرفت على لون آخر من ألوان الرقص الذي يؤديه الشباب في المناسبات الاجتماعية المختلفة، إلى جانب الأغاني السودانية، ألا وهو الرقص الزائيري أو الكونغولي نسبة إلى دولة الكونغو التي كانت تعرف سابقا بزائير.

لم تكن معرفتي المحدودة بالرقصة حائلا بيني وبين محاولة تأديتها في المناسبات المختلفة، ولكن نسبة لاعتقادي حينها بأن الرقص موهبة ربانية يجيدها فقط من أنعم الله عليهم بها، لم أحاول أبدا تطوير قدراتي واكتفيت بالتمايل على أنغام الموسيقى الكونغولية ومحاكاة حركات من هم أفضل مني معرفة بها وأقدر على تأديتها.

حال تعمق فكرة أن الرقص موهبة ربانية في عقلي دون أن أهتم بتطوير قدراتي، لكن ذلك لم يمنعني من أن أستمتع بتحريك جسدي كلما سنحت سانحة، لذلك فالاستمتاع بالرقص لا يقتصر فقط على من يجيدون الرقص بل على مدى الشعور الذي يشعر به الراقص أثناء ممارسته الرقص، وهذا أمر يتفق تماما مع المقولة المتدوالة “ارقص وكأن أحدا لا يراك”.

وعلى الرغم من نشأتي المحافظة، أو ربما بسبب تلك النشأة، فقد حرصت على الانضمام إلى المجموعات الشبابية المحلية في تنظيم الحفلات حيث كان من المعهود أن يكوّن شباب كل حي فريقا يوزعون على بعضهم الأدوار ويجمعون المال من أجل تأجير مكان إقامة الحفل، وطباعة بطاقات الدعوة، واستئجار مكبرات الصوت وكل المستلزمات المطلوبة لإعداد وجبة العشاء بالإضافة إلى أجور حراس الأمن.

في حلفنا الأول، اخترت أغنية للمغني الأميركي “أم سي هامر” لتكون الأغنية التي سأرقص على أنغامها حين يتم تقديمي للحضور كأحد منظمي الحفل. وبالفعل، رقصت دون اعتبار مني إن كانت الحركات التي كنت أؤديها تمت إلى الأغنية بصلة لكنني كنت سعيدا جدا وأنا أرقص على أنغام الأغنية التي اخترت.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق