أقلام يورابيا

يسوع الذي لا يُكرَه

الأب ميلاد جاويش

الأب ميلاد جاويش

لم أَلقَ أحدًا كَرِهَ يسوع. خصومه كُثُر، غير أنّهم احترموا مَقامه. ما جرؤ أحدٌ على أن يتناوله بكلمة. مَن لم يؤمنوا به حفظوا له الودَّ الجزيل. ومن أَلحدوا انسلخوا عنه بألمٍ مرير. أندريه جِيْد، أحد أشهر الملحدين في فرنسا، اعترف قائلاً: “لا أقول وداعًا للمسيح من دون نوعٍ من التمزّق” (“Je ne dis pas adieu au Christ sans une sorte de déchirement “).

في تراثنا المسيحيّ، لا يُحكى إلاّ عن كارهٍ واحد للمسيح، كارهٍ عرفَه فَكَرِهه. هو يوليانوس “الجاحد”، الإمبراطور الرومانيّ سليل قسطنطين الكبير، الذي أعاد إحياء الوثنيّة في ربوع الإمبراطوريّة مع أنّه كان قد تربّى على يد أساقفة مشهورين. نقل ثيودوريطس أسقف قورش عنه أنّه، لمّا صُرع قتيلاً في المعركة على نهر دجلة، نظر إلى السماء وقال: ” لقد غلبتَني، أيّها الجليليّ”.

قضيتُ عمري أقرأ عن يسوع وما قيل فيه، فذُهلت كيف أنّ ابنَ الناصرة هذا سَحَر القلوب على مرّ الأجيال. قضى يسوع أغلب أيّامه يكرزُ على ضفاف بحيرة طبريّة وبين قراها. من يزور البحيرة اليوم يعجب كيف أمكن لذاك المبشّر المشّائيّ أن يغيّر العالم كلّه من تلك البقعة الغارقة في الهدوء والنسيان… لا مجد في تلك البقعة ولا عزّ. مجرّد ضفّة بحيرة ينبت على بعض جوانبها القصب! من بين عيدان القصب وزوارق الصيد بدّل يسوع وجه العالم. احتلّ العالم بالكلمة. المسيحيّون اليوم في مشرق الشمس ومغربها. الكلمة وحدَها سيفهم، “سيف الروح” كما أسماها بولس الرسول.

لا أعتدّ هنا بما لديّ، لا أعظ ولا أبشّر. هذا ليس من أدبيّاتي. حسبي أن أُخلي سبيل القلب كي يكتب. عيدُ مولد سيّدي بعد أيّام، وما لي إلاّ عذب الكلام كي أعايده.

يسوع لا يُدانى إلاّ بالحبّ. تخترقُ سرَّه إذا أحببتَه. أوّل شهادة عن يسوع، خارج الأناجيل الأربعة، أتت على لسان المؤرّخ اليهوديّ فلافيوس يوسيفوس، في كتابه “العاديّات اليهوديّة” من القرن الأوّل. من غير أن يدري، كتبَ هذا “الغريب” في يسوع وتلاميذه أبلغ تعريف: “هو معلّم أولئك الذين يقبلون بفرح حقائق… الذين أحبّوه سابقًا لا يكفّون عن محبّته”. يتتلمذُ ليسوع مَن يحبّه. الحبّ قدرٌ عليه، لا خيار.

نقرأ في الإنجيل أنّ يسوع اختار ثلّة من الرجال. اختار أغلبَهم من على شاطئ بحيرة طبريّة، من وراء شباك الصيد. عبارة واحدة كانت تكفي كي يتركوا كلّ شيء ويتبعوه: “اتبعني”. تبعوه فورًا مع أنّه لم يكن قد تفوّه بعدُ بأيّ كلمة ولا ألقى أيّ خطابٍ ولا صنع أيّ معجزة. أين المعرفة التي تسبق كلّ التزام؟ تأتي لاحقًا. الحبّ أوّلاً.

الحبّ. لا نتكلّم هنا عن عاطفة فحسب، بل عن حقيقة، عن كيان. ظاهرة يسوع تمسّ الكيان كلَّه. كيف لمن استُشهدوا من أجل اسمه، لمن طُحنوا تحت أنياب الوحوش، لمن قُطِّعوا إرْبًا إرْبًا، لمن زُهقت أرواحهم بأبشع الطرق، كيف لهم أن يبذلوا حياتهم من أجل مجرّد عاطفة عابرة تملّكتهم؟ كيف لمن هاموا في القفار تجرّدًا، لمن ساحوا تحت الشمس الحارقة إماتةً، لمن افترشوا الثلج وتلحّفوا الصقيع سعيًا وراء سيرة رهبانيّة ملائكيّة، كيف لهم أن يتعفّفوا إلى هذا الحدّ لو لم يكن يسوع قد أخذ قبلاً بمجامع قلبهم؟ التضحيات الكبرى لا تحرّكها العواطف الصبيانيّة، بل الشغف الناضج.

في سَيره مغلولاً نحو روما، وقبل أن يُرمى إلى الوحوش الضارية، ترجّى القدّيس إغناطيوس الإنطاكيّ مَن حاول من الإخوة أن يتوسّط لدى الإمبراطور تراجانس من أجله ويُعيقَ سير القافلة: “أتوسّل إليكم ألاّ تبذلوا من أجلي لطفًا في غير محلّه. اتركوني أُقدَّم طعامًا للوحوش، التي هي طريقي للوصول إلى الربّ. أنا حنطة الله، وسأُطحَن بأسنان الوحوش، حتّى أكون خبز المسيح النقيّ”.

يسوع بدَّل العالم وهو نائم مخفور. في إنجيل لوقا، صورة عن يسوع تأسرني: تلده أمُّه، تُقمِّطه وتُضجعه في مذود البهائم.

وُلد يسوع على عهد أغسطس طفلاً مُقمَّطًا بلفائف، عاجزًا عن الحركة، “مُعاقًا” إن جاز التعبير، مُضجعًا، نائمًا لا ينبس ببنت شفة. وُلد، وما درى حينها قيصرُ روما المؤلَّه أنّ ذاك الطفل النائم المخفور سيغيّر يومًا ما وجه إمبراطوريّته.

وُلد يسوع في مذود حقير لأنّ لا مكان له في بيت لحم، بين أهله. لم يقبله أهله، فاتّخذ المذود مهدًا له. ليس المذود رمزًا للضعة فحسب، كما هو شائع، بل لكلّ ما لا يليق، لكلّ غريب آتٍ من بعيد.

وأنت يا من يقرأ، قد تكون أنت المذود. قد تكون كأغسطس.

يولد يسوع فيك، وما أنتَ بِدَارٍ.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق