أقلام مختارة

تساؤلات حول الإجماع الفقهي

محمد المحمود

محمد المحمود

لا يمكن تحقيق النهضة الحداثة الشاملة؛ ما لم يكن ثمة تجديد جذري للخطاب الديني، ولا يمكن تجديد الخطاب الديني بصورة جذرية؛ ما لم نبدأ بمراجعة الأصول الناظمة لعملية إنتاج المقولات الرئيسية في هذا الخطاب. وهنا، في هذا المقال، سنأخذ ـ كمثال دالٍّ على غيره، وبشيء من التبسيط الجماهيري ـ أصل “الإجماع” الذي يعدّه أهل السنّة: المصدر الثالث للتشريع الإسلامي بعد القرآن والحديث النبوي، وسنرى كيف ولماذا اختُرع هذا الأصل، ثم كيف تحوّل من اجتهاد ظني إلى أصل لا يجوز التوقف حياله ولو بقليل من الاعتراض؛ حتى وصل الأمر بكثير من الفقهاء إلى تكفير منكريه، وتسامح بعضهم الآخر فقام بإخراج المنكرين له من الدائرة السنية (التي يعدونها الممثل الشرعي والوحيد والأكمل للصواب الديني) إلى دائرة أهل الفسق والزيغ والبدعة والضلال!

بداية، ما هو الإجماع في اصطلاح الفقهاء؟ كغيره من مفردات الفقه التقليدي تكثر تعريفاته، ولكن أشهرها عند الأصوليين أنه: “اتفاق مجتهدي أمة محمد ـ ص ـ بعد وفاته في حادثة، على أمر من الأمور الدينية في عصر من العصور”. وطبعا، يدخل على هذا التعريف عدة إشكاليات في كل جزئية منه، سنعرض لبعضها لاحقا. لكن المهم أن مصدرا/ أصلا له كل تلك الأهمية المحورية/ التأسيسية في التراث الفقهي، ثم يبقى غير منضبط التعريف، بل وغير مُجْمع في تعريفه على أي جزئية من جزئياته. فكيف يُحْتَكم في تثبيت أصل “الإجماع” إلى ما يفتقر ـ حتى في أصل تعريفه ـ إلى الإجماع؟!

أما سؤال: لماذا حرص الفقهاء في بدايات عصر التدوين على اختراع هذا المصدر، وكافحوا لتثبيته في سردية الأصول الفقهية؟ فالجواب على هذا ـ كما يرى كثير من الباحثين المعاصرين ـ موجود في جدلية الصراع بين الفقهاء من جهة، والخلفاء والأمراء من جهة أخرى؛ أواخر العصر الأموي وبدايات العصر العباسي، حيث وجد فيه الفقهاء ضالتهم، أقصد الفقهاء الذين كانوا يطمحون إلى توسيع نفوذهم/ هيمنتهم على الواقع، وجعلها تتمدد على مساحة أوسع من دائرة تخصصهم الديني، بضمها لمساحات من المجال الدنيوي عبر وسيلتين أضافوهما إلى مصادر التشريع، وهما: الإجماع والقياس.

بمعنى أن الفقهاء آنذاك، وجدوا أن الأوامر/ الواجبات، والنواهي/ المحرمات التي وردت فيها نصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، قليلة جدا. ومن ثم، فهي من جهة؛ يكاد يعرفها جميع المؤمنين، فلا يحتاجون إلى الفقهاء فيها (وهنا تضعف سلطة الفقيه)، ومن جهة ثانية؛ مساحة الدنيوي التي هي فضاء الفعل للسياسي واسعة جدا، فلا طريقة لتقليص هذه المساحة إلا باستتباعها للديني، أو على الأقل، استتباع أكبر قدر منها (الصراع على المجتمع بين الخليفة والفقيه).

وهكذا، يستطيع الفقهاء إذا أجمعوا على أمر، أن يقتطعوه من مساحة صلاحية الخليفة ونوابه/ الأمراء؛ فيضعوه تحت سيطرتهم؛ مؤكدين أنهم إنما يضعونه تحت سيطرة الدين، وهم ليسوا إلا متحدثين بلسان الدين/ مُوقّعين عن رب العالمين؛ كما يقولون!

لكن، كيف يُقنع الفقهاءُ المجتمع/ المتلقي بأصالة هذا المصدر الذي سيجعل لهم سلطة تشريع يُشاركون بها قدسية/ سلطة النص الأصلي؟ لا يمكن أن يقتنع الناس ـ بمجرد الدعوى ـ أن الفقهاء لهم صلاحية النبي في استصدار حكم شرعي منسوب إلى الله. لإقناعهم، كان لا بد من استحضار أدلة تؤكد أصالة هذا المصدر المستحدث، الذي يراد له أن يكون ثالث مصادر التشريع، بل وأن يكون حاكما على المصدرين الأولين: القرآن والسنة؛ كما صرّح بذلك بعض الفقهاء، فالغزالي مثلا، يقول في المستصفى: “فينظر أوّل شيء في الإجماع، فإن وجد في المسألة إجماعا، ترك النّظر في الكتاب و السنّة، فإنّهما يقبلان النّسخ، والإجماع لا يقبله. فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنّة دليل قاطع على النّسخ؛ إذ لا تجتمع الأمّة على الخطأ”.

لقد استدل الفقهاء بأدلة غير مقنعة بأي حال، فهي إما أنها غير قطعية الدلالة، أو غير قطعية الثبوت. أي أنها في كل أحوالها “ظنية”: ظن دلالة أو ظن ثبوت، ومع ذلك يراد لها تثبيت “أصل الإجماع” الذي بتثبيته يتقرر أن رأي البشر غير المعصومين يصبح حكما إلهيا معصوما.

ويكفي أن نلقي نظرة على أهم هذه الأدلة؛ ليتضح لنا كيف أنها لا تستطيع أن تقوم بتثبيت مسألة فرعية، فكيف بأصل كبير كأصل الإجماع. من أشهر ما ذكروه كأدلة ـ على سبيل المثال؛ لا الحصر ـ ما يلي:

1ـ {ومن يُشاقِقِ الرسولَ مِن بَعد ما تَبَيّنَ له الهُدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.

2ـ {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.

3ـ {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}

4ـ حديث: “لا تجتمع أمتي على ضلالة”.

5ـ حديث: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم”.

هذه هي أشهر ما استدلوا به، وستلاحظ أن الآيات القرآنية مع قطعية ثبوتها في السياق الديني إلا أنها ظنية، بل هي لا تدل على الإجماع الذي يقررونه إلا بتأويل بعيد، تأويل يطابق بين الانتظام الرؤيوي من جهة، الانتظام السياسي والعسكري من جهة أخرى، وبين الزمن التشريعي المقدس/ النبوي، والزمن غير التشريعي/ غير المقدس. وأما الأحاديث فهي ظنيّة إجمالا: الثبوت ظني، والدلالة ظنية أيضا.

بهذا يتضح أن لا دليل ينهض للقطع بأصل الإجماع. لا يوجد دليل واحد قطعي الثبوت قطعي الدلالة يؤكد هذا الأصل. ثم على افتراض (وهو افتراض غير متوفر بالقطع) أن ثمة دليلا صحيحا صريحا على الإجماع، فإن الخلاف الكبير والمتشعب في تطبيقه/ تنزيله على أرضية الواقع الفقهي يكفي لتقرير استحالة أن يدخل في دائرة الممكن كرأي؛ فضلا أن يكون أصلا حاسما في التشريع.

فمثلا، اختلفوا: هل الإجماع أصل أو حكاية عن أصل؟ أي هل الإجماع يكون على أمر لا نص فيه؛ فيُحدث بذلك حُكما من العدم (وهنا كارثة، حيث يتداخل الاجتهاد البشري مع معصوية القداسة الدينية؛ فتلتغي المسافة بين الإلهي والبشري) أم أن الإجماع يكون حكما على حكم تقرر سلفا بنص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، أم هو لتثبيت دلالة دون دلالة، وترجيح رأي تأويلي على رأي تأويلي، وهل ما فيه نص قطعي الدلالة قطعي الثبوت يحتاج إلى إجماع ليتأكد بوصفه حكما قاطعا…إلخ من الأسئلة؟.

كما اختلفوا فيما هو أهم، وهو: من هم أهل الإجماع، أي من هم الذين إذا أجمعوا أصبح إجماعهم مصدرا ثالثا للتشريع الديني؟. فهناك من حدّد الإجماع بإجماع الصحابة (مع اختلاف في تحديد من هو الصحابي، على الأقل بين المحدثين والأصوليين)، ثم اختلفوا في الفرق بين الإجماع المروي عنهم بالتوافق النصي، وبين إجماعهم السكوتي بالتوافق الضمني، أي أن ينقل عن أحد الصحابة رأي، ولا ينقل عن صحابي آخر ما يعارضه؛ فيكون الساكتون بحكم الموافقين.

وكما حدد بعضهم الإجماع بالصحابة حصرا، فقد حدده بعضهم بصيغة أكثر عموما، فزعم أن الإجماع هو فقط إجماع “السلف الصالح”، هكذا بالعموم، مع تعذر تحديد من هم السلف الصالح، إذ بينما يدخل فيه أفراد؛ يخرجهم منه آخرون. يقول ابن تيمية في العقيدة الواسطية: “والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة”. وابن تيمية والسلفيون يحددون ثلاثة قرون كحد زمني أقصى لوجود السلف الصالح. ومن ثم فهو هنا يقع في اضطراب كبير عندما يربط علة حصر الإجماع فيهم بكثرة الخلاف وانتشار الأمة بعدهم؛ لأن الأمة انتشرت وتوزعت في الأقطار في سنوات الفتح الأولى، وكثرت خلافاتها بعد أقل من ثلاثة عقود.

هناك من حدد أهل الإجماع مكانيا، كالإمام مالك الذي جعل الإجماع هو إجماع أهل المدينة النبوية، باعتبار أنهم الوارثون المباشرون لتعاليم النبي ـ ص ـ، وبالتالي الأقرب لرواية وتمثّل أحكامه.

وهناك مَن حدد ذلك بأهل الحرمين، وهناك مَن حصر كل ذلك بالقرن الهجري الأول. وأيضا، هناك من جعل الإجماع هو إجماع رجلين فقط، هما أبو بكر وعمر، وهناك من جعله إجماع الخلفاء الراشدين الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؛ فإذا أجمع هذان، أو هؤلاء على حكم، فهو حكم شرعي بمثابة نص قطعي لا يجوز الاجتهاد معه. ثم هناك من توسّع فجعله إجماع الفقهاء والمحدثين في القرون الثلاثة الأولى.

لقد حاول بعض الفقهاء المتأخرين نسبيا أن يحدد أهل الإجماع بـ”العلماء المجتهدين” في عصر ما؛ ليفتح الباب لإنشاء أحكام جديدة تلائم زمن المستهدفين بها. لكن، حتى هنا اختلفوا كثيرا وكثيرا، اختلفوا: هل إجماع أهل عصر يُلِزم العصورَ اللاحقة؛ فلا يحق لها الاجتهاد الفردي؛ ليكون كل عصر يحكم العصور التالية له فقهيا؟ واختلفوا؛ هل الاجتهاد الجماعي الذي به يتحقق الإجماع متاح في المسائل التي أجمع عليها الفقهاء في العصور السابقة، أي هل ينقض الإجماعُ اللاحقُ الإجماعَ السابقَ، وإن جاز هذا؛ فهل الأمر هنا تحقيق إجماع جديد لا يجوز الخروج عليه، أم هو نقض للإجماع السابق فقط، بحيث تصبح المسألة محل خلاف؛ بعد أن كانت محل إجماع؟

والأخطر من كل ذلك هو استحالة ضبط وتحديد من هم “الفقهاء المجتهدون” الذين يتحدد بهم الإجماع، وينتقض الإجماع بخلافهم. مَن هو الذي يقرر أن هذا الفقيه أو ذاك مؤهل للاجتهاد، خاصة وأن الفقهاء يؤكدون أن لا كهنوت في الإسلام، وبالتالي، لا اعتبار لتشكيل مؤسساتي في تحديد من هم “الفقهاء”. وإذا كان الفقهاء المجتهدون يصبحون فقهاء مجتهدين بشهادة أقرانهم، فهل يخرق هذه الشهادة العامة واحد أو اثنان، ومن أين استمد الفقهاء الشهود مشروعية شهادتهم. ثم إذا تحدّد ـ افتراضا؛ وإلا هو مستحيل قطعا ـ مَن هم أهل الاجتهاد، فسيأتي السؤال السابق: هل يخرق الإجماع العام واحدٌ أو اثنان، يعني لو أجمع 1000 فقيه، وخالف واحد أو اثنان…إلخ، ما العدد الذي ينقض، وما أدلة تحديد العدد إن وجد…إلخ الأسئلة والاعتراضات التي تُبيّن كيف أن هذا الأصل/ الإجماع ليس هو بذاته محل إجماع أصلا، بل هو أرضية لخلاف واسع جدا؛ بحيث يستحيل أن يكون نقطة انطلاق لتحقيق توافق رؤيوي على أي صعيد.

وأخيرا، يبقى أن أشد ما في هذا المبحث الأصولي غرابة، أن هناك من الفقهاء من قال بكفر من يجحد الإجماع؛ على الرغم من كل هذا الخلاف الكبير حول كل شيء في مسألة الإجماع. كيف يُكفّر الإنسان إذا لم يعتقد بقضية لم يتفق القائلون بأصوليتها على أهم مُحدّداتها، فضلا عن تفاصيلها أو هوامش التفاصيل؟!

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق