نضال منصور
كان صادما ومقلقا أن يخلص تقرير رسمي أردني إلى القول بشكل صريح “إن المشكلة الأساسية للحكومات المتعاقبة طوال 18 عاما عجزها المتكرر في تحقيق أهدافها المعلنة، وبالتالي اتساع فجوة الثقة بين المواطنين وبين هذه الحكومات”.
هذه النتيجة أو الاستخلاص لم يقله حزب أردني معارض، أو ناشط سياسي وإنما جاء بتقرير “حالة البلاد” الذي أثار، وما زال، جدلا واسعا وأصدره المجلس الاقتصادي والاجتماعي، الذراع الاستشاري للحكومة.
في التمهيد الذي كتبه رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي الدكتور مصطفى حمارنه لتقرير “حالة البلاد” يكشف عن حقائق قاسية، وأكثر من مقلقة، وتستدعي إعلان حالة الطوارئ للتعامل مع إشكاليات في بنية الدولة. فهو يقول “كشفت المراجعات وجود تحديات مشتركة تواجه القطاعات والمجالات المختلفة، فمعظم الاستراتيجيات والأهداف المعلنة لم تقترن بخطط تنفيذية، ولم ترتبط بجداول زمنية لتطبيقها، ولم تُخصص لها حتى الموارد المالية، يضاف إلى ذلك ضعف الموارد البشرية لتنفيذها، وعدم وجود قواعد بيانات رصينة للاعتماد عليها”.
هل يعقل أن هذا هو حال البلاد بعد أن أوشكت الدولة الأردنية أن تكمل 100 عام على نشوئها. هذا ما دفع الكاتب والوزير السابق الدكتور صبري إربيحات لطرح هذا التساؤل والإجابة بأن “الاستنتاجات تشير بما لا يدع مجالا للشك إلى أننا لا نسير بالاتجاه الصحيح، فبعد مرور ما يقارب 100 عام على تأسيس الدولة وتحقيق إنجازات كبيرة في ميادين التعليم والصحة والتدريب حازت على إعجاب العالم، نشهد اليوم نكوصا وتراجعا”.
لا يتوقف تقرير “حالة البلاد”، الذي يقع على 1590 صفحة وسلط الضوء على الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وراجع أداء السلطة التشريعية والقضاء، وحكم القانون والعنف المجتمعي، والتنمية السياسية، وخُطب العرش، وكتب التكليف الملكي، وحقوق الإنسان، عند الحديث عن فشل الاستراتيجيات، وإنما يؤكد أيضا على “أن معظم الاستراتيجيات غدت حبرا على ورق، وظلت حبيسة الأدراج، مما أدى إلى التراجع الفادح، ونتج عن هذا الضعف في أداء الدولة، وعدم قيامها بدورها في تقديم خدمات عامة تلبي حاجة مواطنيها دون تمييز أو محاباة”.
ربما يكون تقرير “حالة البلاد” من أكثر التقارير قسوة في النقد للمرحلة التي تقلد بها الملك عبد الله الثاني سلطاته الدستورية؛ فهو يشير على سبيل المثال إلى أن الإحصاءات كشفت عن تعاقب 307 وزراء خلال 18 سنة كان منهم 257 وزيرا جديدا، ويتهم الغالبية (رؤساء حكومات، ووزراء، ومسؤولين، ومثقفين، وقوى سياسية وبرلمانية) إلى الدفع باتجاه المحاصصة وتقاسم “الكعكة” على أسس جهوية وفرعية، و”أصبح الموقع العام يحقق دخلا ووجاهة، وغابت معايير الكفاءة والرقابة والمساءلة، واستفادت فئات محدودة من ذلك، أما الذي دفع الثمن فهو البلاد والسواد الأعظم من العباد”.
رغم الاتهامات الكثيرة التي حملها تقرير “حالة البلاد”، ورغم الاهتمام الإعلامي الواسع به، فإن كل المتهمين، بما وصل له حال الأردن والذين سماهم التقرير لم يردوا تكذيبا أو تأييدا، وساد صمت غريب في “صالونات عمان”، وهمس وغمز واتهامات لرئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي الدكتور حمارنه المعروف بطروحاته الإشكالية بأنه وراء هذا التقرير “الفرقعة”، ولم يتصد للرد سوى الهيئة المستقلة للانتخاب التي وصفت النتائج التي توصل لها وخاصة ما يتعلق بحالة التنمية السياسية بأنها انطباعية، ولم تنم عن دراسة حقيقية أو منهجية واضحة، وأن الفريق المكلف بإعداد هذه الجزئية يفتقر إلى المهارات البحثية.
الهيئة المستقلة للانتخاب هي الجهة الوحيدة التي تكلفت مشقة الرد على التقرير وقالت “نجد أن التقرير خال من المنهجية الواضحة في الوصول إلى النتائج، بل استخدم انطباعات عامة لا تصل إلى الدقة”.
ينكش تقرير “حالة البلاد” “جراح” الدولة الأردنية ويؤشر إلى عمق الأزمات المتناسلة والتي ولدت مشكلات اقتصادية وسياسية، دفعت بالناس إلى الاحتجاج بالشارع، ولكن غير الواضح والمعلوم إذا كان هذا التقرير الرسمي سيجد متابعة واهتماما، أم سيضاف إلى المبادرات واللجان التي أعدت خططا واستراتيجيات ونُسيت، وأهملت، ووُضعت في الأدراج، ويستذكرها بعض المسؤولين كلما كان هناك حاجة لجذب انتباه الجهات المانحة؟
بالاستناد إلى تقاطع المواقف والرؤى، فمن المتوقع أن تبدي حكومة الدكتور عمر الرزاز اهتماما للتقرير، فهي باعتقادي تقترب في رؤيتها للأزمة من توصيف التقرير، وتدعو علنا إلى ضرورة الخروج من حالة المحاصصة وتكريس دولة الإنتاج والمواطنة وسيادة القانون، والتركيز على خطط لها مؤشرات قياس، ومرصود لها موارد مالية للتنفيذ.
ولكن بالقياس على التجارب السابقة واستحضار التاريخ الأردني في العقدين الماضيين فإن من السهل الافتراض في أحسن الأحوال أن يصبح تقرير “حالة البلاد” وثيقة مرجعية يُشار لها، ولكن لا أحد يتعلم الدروس منه، والأهم لا أحد يُصغي للتوصيات التي حفل بها.
تسعفني الذاكرة باستحضار مبادرات أخذت اهتماما وترويجا ثم تلاشت مثل فقاعات الصابون، أتذكر مبادرة “كلنا الأردن” التي عمل بجهد ودأب رئيس الديوان الملكي الأسبق باسم عوض الله على أن تصبح علامة فارقة، ثم طُويت وظلت اسما في الأرشيف الأردني؛ ولا يمكن أن أنسى “الأجندة الوطنية” ووزير البلاط الملكي الدكتور مروان المعشر والفريق السياسي والإعلامي ورجالات الدولة الذين شاركوا بصياغتها، وكانت بحق وثيقة لو طُبقت لتغير حالنا؛ وتأسرني الأوراق التي خرجت بها لجنة الحوار الوطني التي تشكلت إبان “الربيع العربي” عام 2011، وكانت تعبيرا عن الطيف السياسي في أكثر المراحل حرجا في تاريخ الأردن، وأسهمت بقيادة رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري بتقديم مقترحات وتوصيات لو أخذ بها ونُفذت لنقلت الأردن إلى مرحلة أخرى من الديمقراطية والإصلاح السياسي.
تقرير “حالة البلاد” أصبح حقيقة واقعة وحتى الآن لم تتضح مواقف المؤسسات السيادية في الأردن منه، ولا يُعرف هل سيُعطى زخما وقوة لعمل المجلس الاقتصادي والاجتماعي في المستقبل؟ أم سيكون الرصاصة التي ستودي به وتضع حدا له؟
الكاتب عريب الرنتاوي في مقالة نشرها معلقا على التقرير قال “المنتقدون للتقرير شيعا وقبائل، بعضهم نطق بحكم الإعدام عندما قرأ صفحة الشكر بقلم الدكتور مصطفى حمارنه، وبعضهم الآخر صدمته المكاشفة والمصارحة والجرأة في نقد حالنا… بعضهم “الثالث” لا يريد لنا أن ننظر بالمرآة، خصوصا حين تكون من “المكبر” خشية أن نرى التجاعيد والأخاديد في وجوهنا… بعضهم “الرابع” ينتمي لمدرسة تسعى في تأييد حالتنا وتقاوم التغيير، لأسباب تتعلق بطبيعتها “المحافظة” أو بدفع من منظومة المصالح التي يوفرها استمرار الحال على ما هو عليه… تعددت الأسباب والنتيجة واحدة”.
لا أخالف الرنتاوي بل أتفق معه، ولكن أسأل عن “العقل الجمعي” للدولة هل تدارست حالنا على ضوء النتائج التي توصل لها؟ هل ستمضي في سياسة وحالة الإنكار التي تُمارس منذ عقود؟ هل ستصمت عن “جردة الحساب”، واتهامات الفساد والمحسوبية وسوء الإدارة، وترسيخ نهج الولاء للأفراد التي تضمنها التقرير وتغض النظر عنها، كأنها لكم تكن، فتقودنا من تراجع إلى تراجع؟ أم أن “الصحوة” اقتربت ونحن على أبواب انتفاضة وثورة بيضاء تعيد للأردن مجده التليد؟
بصراحة لا أعرف، ولا أدري إن كنت سأميل لحالة التشاؤم أم التفاؤل، ولكن أدرك حقيقة أن الإرادة السياسية مفتاح الحل، ونقطة البدء للتغيير.
الحرة