أقلام يورابيا

الشيوعية .. والهُوّة السحيقة بين القول والفعل

أدهم عامر

أدهم عامر

التقى النقيضان ( الدين والشيوعية ) في العزف على أوتار تطرب لها الجموع، فوجدت لكل منها آذاناً صاغية و مريدين، فالأديان عزفت على وتر الخلود بعد الموت، ووعدت أتباعها بالرغد والحياة الهانئة الخالية من المشاكل والمنغصات، في حين أن الشيوعية وعدت بالحصول على ذات الشيء أثناء الحياة … وهنا بالذات كان (مخترعوا) الأديان أكثر خبثاً ودهاءاً من (مخترعي) الشيوعية، فالفرقة الأولى ( أصحاب مشروع الأديان ) جنّبت نفسها عناء الإيفاء بالوعود بتأجيلها لما بعد الموت، وبإيهام الناس بأن السماء ستعوضهم لاحقاً عن كل المخازي التي حاقت بهم طوال حياتهم ( مت أولاً وستحصل لاحقاً على كل ما حرمناك منه، وحرّمناه عليك أثناء حياتك ) وباشروا على الفور باستثمار مشروعهم الناجح ومازالوا يفعلون ذلك لغاية اليوم بنجاح منقطع النظير منذ آلاف السنين ودون بذل أي جهد يذكر، لكن ( أصحاب المشروع الثاني) – الشيوعية – سرعان ما وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام استحقاقات ونظريات زاخرة بالمثالية وملأى بالوعود الكاذبة والأخطاء القاتلة و المثاليات الفارغة الغير قابلة للتطبيق، ولهذا لم يُعمِّر مشروعهم أكثر من سبعين عاماً، والحصيلة كانت جملة كوارث لم تنجح سوى بهدم البنى التحتية و بتعميم حالة الفقر والبطالة في المجتمعات التي حاولت تطبيقها .. ففكرة الشيوعية تبدو في واقع الأمر ضحلة وخرقاء وقد تتناسب مع جهالة و حماقة (العشرين) لكن تبصُّرْ و حكمة (الأربعين) تسقطها فوراً ومن أول مراجعة، ولهذا وجدت ضالتها في حشود الشباب المتحمسين للتغيير في المجتمعات التي تعاني من الفقر والعوز وغياب العدالة الإجتماعية.

تعود بدايات الأفكار الشيوعية إلى ما قبل الميلاد، إلى جمهورية أفلاطون(380ق.م) التي لا تطلب المساواة للجميع، إنما تطلبها للنخبة الحاكمة، لأن انهماك هؤلاء في اقتناء الثروات، لا يساير الفضائل العليا، إضافة إلى أن المال والملكية هما جذور كل الشرور.

في القرن السادس عشر، نادى توماس مور في كتابه Utopia بالشيوعية، وأدخل ـ على العكس من أفلاطون- الجميع في نظامها، وإن كان قد استبقى العبيد لأداء الأعمال الشاقة .

كما تصور الإيطالي توماس كامبانيللا T.Campanella مدينة شيوعية على منوال يوتوبيا توماس مور وجمهورية أفلاطون، يتقاسم فيها الجميع العمل والثروة، وتؤلف الإنسانية جمعاء فيها امبراطورية واحدة، وأطلق عليها اسم مدينة الشمس Civitas Solis. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، كثرت دعوات الشيوعية، وأنتجت العديد من المؤلفات التي تتفق فيما بينها على أن المنافسة على الملكية هي أُسُّ الشرور.

في القرن التاسع عشر، دوّن ماركس Marx بالاشتراك مع انجلز Engles البيان الشيوعي الشهير (1848)، حلّلا فيه الرأسمالية والاشتراكية “الزائفة”، وقدما تفسيراً للتاريخ يمهد لقيام النظام الشيوعي. وعرفت نظريتهما باسم «الاشتراكية العلمية» أو الشيوعية. ولما كان مصطلحا «الاشتراكية» و«الشيوعية» يستخدمان أحياناً للإشارة إلى الشيء ذاته، فقد أشار ماركس إلى أن الاشتراكية هي مرحلة أولى للانتقال إلى الشيوعية. فقد تبدو الاشتراكية والشيوعية متشابهتان، فأشياء الشيوعية هي السلع الاستهلاكية، أم أشياء الاشتراكية فهي الإنتاج. وهذه نقطة اختلاف رئيسية بين الاشتراكية (التي تركز على الإنتاج، وتنادي كل حسب قدراته ولكل حسب عمله وإنتاجه)، والشيوعية (التي تركز على الاستهلاك، وشعارها كل حسب قدراته ولكل حسب حاجاته).

مفهوم الماركسية – اللينينية

تمثّل لينين أفكار كارل ماركس وانجلز إضافة إلى نظريته، فبرز مفهوم الماركسية – اللينينية كمبدأ نظري للشيوعية، وتأسس أول مجتمع شيوعي في روسيا مع نجاح الثورة الشيوعية فيها عام 1917، حيث استولى لينين وحزبه البلشفي على السلطة، فتأسس (الاتحاد السوڤييتي)، وغيّر البلاشفة اسمهم إلى «الحزب الشيوعي»، وجعلوا الفلسفة الماركسية عقيدة، وأنزلوا كتب ماركس وأنجلز ولينين، منزلة التبجيل الشديد، وأقاموا على الأيديولوجية الماركسية حراساًً هم أعضاء الحزب، وزعماء هم المنظرون والمسوقون. وبدأت الحكومة بمعاقبة كل من يخالف الفكر الماركسي، وعدت ذلك مناهضة للحكم وقلباً للنظام العام. وأنشأت مجلة فلسفية، «تحت راية الماركسية» مهمتها التفسير والتعليق على كتب ماركس وأنجلز ولينين. وبهذا انفردت الشيوعية كاتجاه سياسي بتسييسها للفلسفة. وبهذا خُيِّل للنظام الروسي حينها بأنه يستطيع القضاء على الرأسمالية من خلال نشر الثورة الشيوعية في العالم.

ستالين الذي خلف لينين، حول الإتحاد السوڤييتي إلى ديكتاتورية تعتمد على تحكم الدولة المطلق بالاقتصاد، وقمع جميع أشكال المعارضة بوحشية. فتحولت الماركسية في عهده إلى عقيدة صارمة، ولم تفلح التغييرات المحدودة التي تمت بعد وفاته في قلب هذه المعايير.

انتشار الشيوعية

بعد الحرب العالمية الثانية، ساعد الاتحاد السوڤييتي في فرض هذا النظام السياسي على الصين وكوبا والعديد من دول أوروبا الشرقية. وفي آسيا أدى نجاح الثورة الشيوعية في الصين عام 1949 إلى نمو الأقاليم الشيوعية والحركات السياسية في دول أخرى شملت كوريا الشمالية وڤيتنام. لكن جميع هذه الأنظمة الشيوعية كانت بعيدة تماماً عن المجتمعات النموذجية التي تخيلها كل من ماركس وأنجلز. فبذلك الوقت بدأت الحرب الباردة وسباق التسلح بين الإتحاد السوڤييتي والولايات المتحدة الأمريكية.

وفي بداية الثمانينات من القرن العشرين، كان ثلث سكان العالم يعيشون تحت أنظمة شيوعية تشترك فيما بينها بصفات معينة وهي: تبني الماركسية ـ اللينينية، رفض الرأسمالية والملكية الفردية، وتسلط الدولة على النشاط الاقتصادي، و كذلك السيطرة المطلقة للحزب الواحد.

منذ نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، خضعت المجتمعات الشيوعية لتراجع وركود حقيقيين في أنظمتها الاجتماعية والاقتصادية، وأدى الفشل الناتج من الإصلاحات التي بدأها غورباتشوف إلى سقوط النظام الشيوعي وتفكك الاتحاد السوڤييتي عام 1991 وانهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا وفي أنحاء أخرى من العالم. فجميعها – دون استثناء – كانت أوهن من خيوط العنكبوت- لأنها قائمة على الخطب الرنانة والوعود الخُلَّبية، واندثرت الشيوعية كحركة عالمية موجهة مركزياً، ولم يعد هناك أمل حقيقي في عودتها. ولكن بعض الأحزاب الشيوعية مازالت موجودة تمارس اللعبة السياسية ضمن الأنظمة الديمقراطية. أما في الصين وبعض الدول الشيوعية الأخرى فقد غيّرت الإصلاحات الاقتصادية الجذرية صورة الأحزاب الشيوعية، ولم يتبق اليوم سوى نظامي كوبا وكوريا الشمالية، محافظين على الصورة التقليدية للأحزاب الشيوعية التي أهانت الإنسان فيهما إلى الحد الأقصى.

الحزب الشيوعي السوري

لم يكتف خالد بكداش – صاحب المقولة الشهيرة : (السوڤييت لا يُخطئون) – بالتربع مدة ٦٢ عاماً على سدة رئاسة دكان الحزب الشيوعي السوري، وانما أورثه لأرملته وصال فرحة التي أورثته بدورها لابنها عمار بكداش لاحقاً .. نعم .. هكذا وبكل بساطة لن تتنازل العائلة عن مشروعها الإستثماري، فمنذ أن طوّع حافظ الأسد الأحزاب عام ١٩٧٢ تحت مظلة ما يسمى: الجبهة الوطنية التقدمية، بات قادة هذه الأحزاب مجرد مخبرين وضيعين يزودون رؤساء فروع الأمن أولاً بأول بأسماء ونشاطات الأعضاء الجدد من الشباب المتحمس للتغيير، ومعظم هؤلاء الشباب كانوا مثقفين وأنقياء وكانت أهدافهم تتمثل بالمطالبة بالحرية والتعدد وإرساء قواعد العدالة الإجتماعية، فدفعوا أثماناً باهظة وقضوا سنوات طويلة رهن الإعتقال التعسفي ومات الكثيرون منهم في السجون بسبب انضوائهم تحت أجنحة هذه الأحزاب الصورية المُخترقة سلفاً.

في إحدى جلسات ( قيادة الجبهة الوطنية التقدمية ) التي ترأسها حافظ الأسد، قالت وصال فرحة بكداش، زوجة الزعيم التاريخي للحزب خالد بكداش، إنها لا تستطيع الموافقة على مقترح مدرج في جدول أعمال الاجتماع قبل العودة إلى قواعد الحزب الشيوعي.. يومها ضحك حافظ الأسد وقال: نستطيع أن نؤمن لك حافلة سياحية لتأتي بقواعد الحزب إلى هذا الاجتماع فضجت القاعة بالضحك رغم أن الإهانة لم توجه للحزب الشيوعي فقط بل لبقية الأحزاب أيضاً لأن الحال من بعضه والشعب السوري يدرك هذه الحقيقة ولذلك اعتاد الناس ترديد العبارة الشهيرة: الجبهة الوطنية التقدمية لصاحبها حزب البعث العربي الاشتراكي.

وصال هذه التي ورثت بقالة الشيوعية عن زوجها، بكت بكاءاً مراً على اللواء غازي كنعان واستثمرت في موته ووصفته عبر جريدتها “صوت الشعب” بالمناضل الوطني! وانتحاره خسارة وطنية لسوريا وشعبها!!

وللمفارقة العجيبة، فقد نجد لغاية الآن من يتطوع للدفاع عن التجربة الشيوعية وشتم الرأسمالية.. لكن هؤلاء غير مستعدين أبداً للعيش في ظل النظام الشيوعي، لكنهم مستعدون دوماً لدفع الغالي والرخيص لتحقيق حلم الوصول إلى الدول الرأسمالية ليحظوا بالحياة الكريمة في ظل نظام يصون حرياتهم ويحفظ كرامتهم.

وهكذا طويت إلى غير رجعة فكرة الشيوع والشيوعية التي أعتبرها شخصياً ثاني أكبر أكذوبة في تاريخ البشرية بعد الأديان.
وهي إن نجحت بتقديم آلاف الكتب والدراسات والتنظير الفارغ، فقد فشلت فشلاً ذريعاً ومخزياً بتقديم نموذج عملي واحد يترجم وعود الحبر المراق هدراً على الورق، ولم يبق منها سوى ذلك العلم الأحمر الذي يتوسطه منجل ومطرقة … فالمنجل لتذكيرنا بحصاد الشيوعية المر، والمطرقة كانت مسلطة دوماً فوق رؤوس الأتباع، ولم تستخدم في يوم من الأيام للإنتاج الواعي و المدروس !.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق