أقلام مختارة

الفجوة الإدراكيّة بين الطبقة السياسية والمجتمع

إياد العنبر

إياد العنبر

تقوم الفكرة الرئيسة لتحليل ودراسة النظام السياسي عند عالم السياسة الأميركي ديفيد إيستونDavid Easton ، على أساس يُعرَّف فيه النظام السياسي بأنه “مجموعة من التفاعلات السياسية التي تحدث داخل أي مجتمعٍ، والتي يتم بمقتضاها صنع السياسات العامة، ومن ثم يعمل النظام السياسي بناء على أربعة عناصر أساسية هي: المدخلات، التفاعلات، المخرجات، والتغذية العكسية/ الاسترجاعية”.

ويرى إيستون أن تنظيم عمل النظام السياسي يكون بفعل المتغيّرات، والتي تكون على مستويين؛ الأول النشاط التوزيعي، والثاني القبول. وبعبارة موجزة تقوم فكرة إيستون على فكرة تفيد بأن الوظيفة الرئيسة للنظام السياسي تتمثل بالاستجابة للمتطلبات والحاجات الاجتماعية، على أنها المدخلات، ويتم توزيعها والتفاعل معها في منظومة عمل النظام التي تجسدها المؤسسات السياسية. ومن ثم، يتمّ تحويلها إلى مواقف وقرارات سياسية. وفي ضوء ذلك يتم تقييم فاعليتها من خلال التغذية الاسترجاعية.

وإذا اعتمدنا منهج إيستون في تحليل أنظمتنا السياسية، سنلاحظ وجود مشكلة في عمل النظام السياسي. إذ أن وظيفته الأساسية لا تقوم على الاستجابة لحاجات المجتمع ومتطلباته، وإنما يعمل النظام السياسي في دولنا، التي لا تزال تراوح في وصف التحوّل نحو الديمقراطية، وفقا لتلبية مصالح الحكام، والطبقة السياسية، أو الزعامات السياسية. ولذلك يمكن وصف هذه المشكلة بالفجوة الإدراكية.

يمكن اختصار نظرية الفجوة الإدراكية بالتباين في وجهات النظر بين المطالب الرئيسة التي يحتاجها المجتمع كتوفير متطلبات الحياة اليومية، وبين رغبة القائمين على السلطة بتوسيع دائرة نفوذهم، وضمان هيمنتهم وبقاءهم في الحكم. ومن ثمّ، بات ما يعتقده السياسي بأنه منجَز يقدّمه لشعبه، هو في الحقيقة ليس ما يريده الشعب، وإنما ما تريده حاشية الحاكم، وما يرضي الزبائنية المقرّبين.

هذه الفجوة أخذت بالتوسع يوما بعد الآخر، وقد تجسدت في النهاية بحركات احتجاجية واسعة النطاق، بعضها ساهم بتغيير نظام الحكم كما حدث في بلدان الربيع العربي.

إن ما نلمسه بعد انتهاء تحدي الإرهاب، يدفعنا إلى القول بأن مشكلة الفجوة الإدراكية من أخطر التحديات التي ستواجه النظام السياسي في العراق. إذ باتت تتضح مؤشراتها في جميع مفاصل الحياة السياسية. ويبدو التكرار واضحا في ظاهرة عمى السلطة عن المتطلبات والأولويات للحاجات الاجتماعية، على الرغم من تعاقب أربع حكومات على إدارة الدولة.

حركات الاحتجاج التي تهدأ وتعاود للظهور مرّة أخرى في منتصف كل عام، هي من أبرز تجليات الفجوة الإدراكية، فالحكومات المتعاقبة كانت تتعامل مع التظاهرات وحركات الاحتجاجات بالاستجابات الآنيّة، أو التسويف والمماطلة لحين مرور ما بات يسمّى بـ”موسم التظاهرات”، الذي يبدأ مع بداية صيف كل عام وينتهي بقرب نهايته.

ومن اللافت للانتباه قدرة الحكومة والطبقة السياسية على خلط الأوراق وتضييع بوصلة المطالب الشعبية التي تنادي بها حركات الاحتجاج، إذ دائما ما تُعلن عن تأييدها لمطالب المتظاهرين! وكأن المتظاهرين قد خرجوا ضد أنفسهم وليس ضد الطبقة الحاكمة.

وفيما بعد تعمل الأحزاب السياسية على تحشيد أجهزتها الاعلامية وجيوشها الإلكترونية لترويج فكرة الدعم الخارجي للتظاهر، وبالتالي تحرَّف مسار الاحتجاجات من حركات مطلبية إلى تصويرها كتهديد أمني للدولة والمجتمع.

إن تراكم أخطاء الحكومات السابقة، والغياب التام لسياسات تنمويّة تطبَّق على أرض الواقع، وليس شعارات سياسية خطابية أو انتخابية، أنتج فجوة بين تسارع الحراك الاجتماعي، وزيادة في الاهتمام بالأجيال الجديدة بالمجال العام. لا سيما في ظل تزايد أعداد البطالة من حملة الشهادات، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تعد نافذة للتعبير عن السخط وعدم الرضا عن السياسات العامة.

وعلى الرغم من محاولة بعض المراقبين الترويج إلى أن حكومة السيد عادل عبد المهدي، تمثل نوعا من الاستجابة لحركات الاحتجاج، لكن هذه الفرضية غير صحيحة. إذ لا تبدو المؤشرات إيجابية في خطوات الحكومة الخامسة منذ سقوط نظام صدام حسين، والتي يترأسها السيد عادل عبد المهدي، فهو يعمل وفق قناعات فوقية، قد يكون بعضها متعاليا عن الحاجات الآنية للمواطن، ولذلك نجد إصدار قرارات يعتقد هو بأنها قد تساهم في ترسيخ مقبوليته لدى الشارع. ولذلك نجده يركز على رفع الكتل الكونكريتية التي تحيط بمؤسسات الدولة، وتقطع طرق تواصل تربط بين منطقة وأخرى داخل بغداد، ويسعى لإتمام فتح المنطقة الخضراء.

على الرغم من ضرورة هذه الاجراءات، والقيام برفع الحواجز لانتفاء الشروط الموجبة لها، ولكنّها لا تشكل أولوية لدى مواطن الذي يتأمل من الحكومة أن تهتم بتحسين المستوى المعيشي، وتقديم معالجات لشيوع الفساد واستغلال السلطة أو التمييز بين المواطنين، وبعبارة موجزة: إن التحدي الأهم أمام حكومة عبد المهدي يتمثّل بمسألة بإعادة الثقة بين المواطن والدولة.

إن التعاطي مع الأزمات والمتطلبات المجتمعية بمنطق الخطط والرؤى الاستراتيجية المستقبلية البعيدة عن تحديد الأوليات، يؤدي إلى عجز النظام السياسي عن الاستجابة والاحتواء لمطالب حركة الأجيال، وبالنهاية يساهم في تعميق الفجوة الإدراكية بين رؤية الحكومة ورؤية الجمهور. ويبدو أن خطوات السيد عادل عبد المهدي وتسويفاته في إدارة الدولة في مجال رسم الاستراتيجيات المستقبلية، تراهن على عامل الزمن في إثبات أهميتها، وهذا هو نوع من الانفصام عن الواقع.

فالرهان على عامل الزمن ليس في صالح الحكومة الحالية، التي يتنظر منها المواطن خطوات جديّة لمواجهة تغوّل السلطات الموازية للدولة، وهيمنتها على مؤسساتها. وما لا يدركه السيد عبد المهدي هو العلاقة المباشرة بين المواطن والحكومة التي تتم من خلال الوزارات، وليس من خلال شخصيته كرئيس للحكومة فقط، أو فريق حكومي مرتبط بشخصه، يشكل حكومة موازية.

وإذا كان التاريخ يتضمّن العِبَر، فأرى في الإحالة إلى الخطأ التاريخي الذي ارتكبه نوري السعيد عبرة لمن يريد أن يعتبر. كان خطأ نوري السعيد يكمن في تجاهله وعدم فهمه لمطالب الأجيال الصاعدة، وكان يعتقد أن التعويل على التحالفات الاستراتيجية فقط تحقق للعراق والعراقيين الرفاه والاستقرار، حتى لو كان ذلك على حساب تجاهل الحراك الاجتماعي ومطالبه. ويبدو أن منطق التفكير هذا، هو المشكلة الرئيسة التي تهيمن على عقلية من يصل إلى السلطة في السابق والحاضر.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق