كوليت بهنا
مع بدء العام الجاري، أقلعت عجلة الكاميرا لعدد من الإنتاجات الدرامية العربية التي ستعرض في الموسم الرمضاني بداية شهر أيار/مايو المقبل، وفي نظرة عامة لملخصات القصص الدرامية التي أعلن عنها قبل فترة وجيزة، تبدو ملامح بعض هذه القصص وكأنها ستكون متشابهة مع ما سبق وتم تقديمه في السنوات الماضية.
يرسخ، هذا التشابه، السياسة الانتاجية العامة المتخذة ـ بشكل غير معلن ـ منذ عشر سنوات تقريبا، والتي ارتأت إنتاج دراما بمواصفات خاصة تحقق معادلة الربح الأوفر والمشاهدة الأكبر، مع تجنب معارك الرقابة أو صداع الممنوعات السياسية.
وفقا لمواصفات هذه السياسة الدرامية، يتابع المشاهد منذ سنوات أعمالا يمكن تأطير معظمها بـ”سمة” الرفاهية، بل الرفاهية إلى حد الترف.
ففي كل عمل هناك نجمة ـ سوبر ستار ـ تتمتع بمعادلة ملكات الجمال وعارضات الأزياء بآن واحد، يرافقها نجم محلي أو عربي بالمستوى ذاته من الجمال وجاذبية الرجولة والعضلات المفتولة، دون الاكتراث إلى توفر الموهبة والأداء التمثيلي، انطلاقا من مبدأ “ومن سيهتم بالأداء أمام طغيان الجمال؟”.
لأجل هذين النجمين الساحرين، اللذين يدفع لهما ملايين الدولارات التي يتم تعويضها عشرات الأضعاف عبر الإعلانات لاحقا، يتم استكتاب نص درامي خاص بهما، أو يقتبس عن فيلم أو مسلسل أو فكرة من الأدب العالمي؛ وفي كثير من الأوقات تنتهك الحقوق الأدبية العالمية ولا تتم الإشارة إلى مصدر الفكرة.
المهم أن يجتمع النجمان عبر قصة حب خارقة حارقة، قادرة أن تلهب قلوب المشاهدين وخاصة الجيل الشاب، تتضمن الكثير من الحبكات والأكشن ودسائس الحسّاد الكارهين للحب والذين يتآمرون بدم بارد على كل العشاق، وصولا إلى النهاية السعيدة التي ينتصر فيها عشقهما ويتخلصان بيسر شديد من الهموم التي سرقت النوم من أعينهما ومن عيون المشاهدين لثلاثين يوما.
وبطبيعة الحال، لا علاقة لهذه الهموم أبدا بمعاناة العيش ولا بالغلاء ولا بأي قضية جادة أخرى، إذ إن أحد أساسيات النص الذي استكتب لأجلهما، تحقيق شرط الفرجة عالية الرفاهية أو دراما “سبع نجوم” وإظهار ثراء البطلين الفاحش بامتلاكهما الشركات الكبيرة وارتيادهما المطاعم الفاخرة وسكنهما في فلل أو بيوت جميلة ومنعمة في كل تفاصيلها، ابتداء من المطابخ المترفة وغرف النوم الخرافية والصالونات الواسعة التي تشعرك أنك في معرض لأفخر الديكورات، مع أهمية توفر أرائك ريش النعام في كل زوايا البيت والتي لا بد أن يمر مشهد ما وترمي البطلة نفسها براحة فوقها وهي تبكي حرقة من جفاء الحبيب.
دون إغفال عنصر ملابس النجمين التي يتم اختيارها من أحدث دور الموضة والأزياء العالمية، ومراعاة أحدث صرعات الشعر والماكياج حتى لو كانت لا تتناسب مع الشخصية دراميا، والتركيز على الأسنان البيضاء وابتسامات هوليوود التي يوزعها جميع المشاركين في المسلسل حتى لو كانت الطباخة أو حارس الفيلا، ودون إغفال امتلاك النجمين لأكثر من سيارة فارهة يتم تبديلها بحسب المشهد، مع ضرورة توفر سيارة خاصة بسباق السيارات يستعملها أحد النجمين من أجل ملاحقة الحبيب في الشوارع العريضة، ومع الحرص أن يحمل النجمان جهازا خليويا حديثا وفاخرا للغاية يقومان برميه على السرير تأففا، أو كسره على الأرض بعد مكالمة غاضبة مع الحبيب أفقدتهما رشدهما.
برر أحد المنتجين العرب ذات مرة سبب حرصه لإظهار كل هذه الرفاهية في أعماله، بأن المشاهد العربي يعيش في ظل ظروف صعبة بشكل عام، وحين تعرض عليه هذه الرفاهية الفاقعة في الدراما، فإنك تساعده على نسيان همومه، وتخدره لساعات ليحلق مع عالم الأحلام التي يراها على الشاشة، وربما تحرضه هذه الدراما فيسعى لتحقيق هذه الرفاهية لنفسه؛ إضافة إلى تقديم صورة سياحية للعالم بأننا نمتلك بدورنا الثراء والذوق والجمال، والخروج من النظرة الدونية النمطية الغربية للعرب، وما تتحفنا به منظمات حقوق الإنسان وغيرها من تقارير كيدية ومغرضة حول تعاسة الفرد العربي.
أي أن سعي الفرد العربي من أجل تحسين ظروف معيشته والقضاء على الفقر والفساد وقضايا التنمية وتراجع التعليم والثقافة والفنون وقضايا المرأة والحريات وغيرها من القضايا الجادة، إضافة إلى أهم قضايا السنوات العشر المنصرمة والتي تتمثل بثورات الربيع العربي والحروب واللاجئين والهجرة والموت المجاني والمجاعات، كلها قضايا تندرج تحت مسمى “الهمّ والغمّ” بحسب العقلية الإنتاجية، والابتعاد عنها أسلم للجميع وبخاصة للمشاهد الذي قد تصاب نفسيته بالوهن لدى متابعتها وتضيف له كآبة فوق كآبته.
لذلك، ربما علينا أن لا نأمل بمشاهدة إنتاجات درامية صادقة تشبه تلك الأعمال التنويرية التي ساهمت في زمن مضى في تنمية وعي المشاهد مثل (ليالي الحلمية وآرابيسك والدراما التي اقتبست عن روايات نجيب محفوظ وخان الحرير وبكرا أحلى.. وغيرها) ولامست قاع المدينة ونبضها الحقيقي، ودخلت بيوت البسطاء وتغلغلت تحت اللحاف العفن (للغلابة والمعترين) واستمعت إلى تأوهاتهم ونطقت بهمومهم وأحلامهم، ونقلت روائح طبيخهم الذي يرشح منه الحب والزيت مع الثوم والكزبرة.
دراما الرفاهية، دراما الأثرياء، لا تكترث إن كانت تشوه الواقع أو تنقل صورة مزيفة عنه، ولن تكترث بالتأكيد إلى أنها قد ترفع منسوب الضغينة لدى الجيل الشاب وتحرضه على السرقة وباقي أعمال الجريمة من أجل التماهي مع حياة مماثلة يعيشها نجوم دراما الأحلام.
لايكره أحد مظاهر التنعم والرفاهية ويتمناها لنفسه وللآخرين في الحياة أو في الدراما، لكن من الواضح أن الدراما لم تعد تحب الفقراء.
الحرة