رياض عصمت
لماذا رفض خوان غوايدو، رئيس الجمعية الوطنية الذي أعلن نفسه رئيسا مؤقتا لفنزويلا، التفاوض مع خصمه الرئيس الفنزويلي المطعون بشرعيته نيكولاس مادورو للاستمرار في السلطة؟ ألم يكن ممكنا للتفاوض المطروح أن يحقن الدماء وينهي التظاهرات الحاشدة التي تعصف بأمن فنزويلا واقتصادها المتهاوي؟ ألم يكن من شأن التفاوض أن يلغي انقسام العالم بين مؤيد لهذا أو لذاك، مهددا بمزيد من العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية التي ستؤدي حتما إلى عجز فنزويلا عن تسديد القروض لحليفتيها روسيا والصين، وعن استيراد المواد المعيشية التي تخفف الاحتقان الشعبي الحالي؟
ذكرتني أحداث الأزمة الفنزويلية الراهنة بالتناقض الشائع بين الشعارات المطروحة مع الواقع المزين بالأوهام. ذات يوم من عام 2010، روى لي مسؤول رفيع في وزارة الخارجية السورية أن سفارتنا في كاراكاس تعرضت لسرقة كبيرة. كان ذلك في ذروة علاقة الرئيس الراحل تشافيز الحميمة مع سوريا. انتابتني دهشة عارمة، وسألته: “أتعني أن لصوصا نهبوا الخزنة وسرقوا الكومبيوترات؟” أجابني بأسى: “للأسف، لم يتركوا شيئا في السفارة. حتى الأبواب سرقوها.” أردفت: “لكن سوريا دولة صديقة فنزويلا! ماذا كان حراس السفارة يفعلون؟ كيف عفَّش اللصوص الأثاث والأبواب دون أن يوقفهم أحد؟” لم ينطق الرجل بجواب، بل رمقني بنظرة غامضة، فأدركت أنه يؤثر الصمت وانصرفت مودعا.
لوجه الغرابة، تتمتع فنزويلا بثروة نفطية هائلة، ومع ذلك يعاني شعبها من الفقر المدقع والبطالة، وترتفع فيها معدلات الجريمة والهجرة. مؤخرا، عقب انتخابات قاطعتها المعارضة وشككت بنزاهتها، انقسم العالم إلى قسمين تجاه رئيسين يتنازعان على السلطة.
الأول، هو مادورو المتشبث بمنصبه دون أن يأبه بالاحتجاجات الشعبية ضد سياساته، والذي يحظى بدعم صريح من روسيا والصين والمكسيك وعدة دول أخرى.
والثاني، زعيم المعارضة، غوايدو الذي أعلن استلامه الرئاسة بالوكالة كمرحلة انتقالية تمهد لإجراء انتخابات حرة، تسانده الولايات المتحدة وعديد من دول أوروبا الغربية والأرجنتين والبرازيل وكولومبيا وعدة دول أخرى من العالم. أعطت بعض هذه الدول الرئيس الحالي مهلة ثمانية أيام للتنحي وإجراء انتخابات نزيهة. لذلك، عندما دعا مادورو خصمه غوايدو إلى التفاوض، رفض الثاني الدخول في تلك اللعبة السياسية التي تحفل بالمراوغة والخداع لإضفاء شرعية على ما هو قائم.
السؤال: كيف يمكن لأية مفاوضات أن تنجح؟ ما هي الاستحقاقات التي يتوجب على كل من الطرفين المتنازعين قبولها؟ يصعب أحيانا على كثير من الناس في مجتمعات غربية ومختلفة التركيب تفهّم الأوضاع السياسية في بلدان أخرى، لأن المصطلحات لا تتطابق، بل ربما تتناقض أحيانا.
يقتضي التفاوض الناجح ثلاثة أمور مبدئية. أولها الاعتراف بالآخر، ومشروعية مطالبه، من أجل خوض حوار بناء معه، لا إدانته وشجبه ونعته بالعمالة والخيانة. ثانيها، الاستعداد لتقديم بعض التنازلات المؤلمة من أجل المصلحة الوطنية العليا. أما ثالث الأمور وآخرها، فهو التحلي بالشفافية والصدق في النقاش التفاوضي، والالتزام بما تفضي إليه المفاوضات.
للأسف، فإن معظم المفاوضات التي شهدها ويشهدها العالم النامي تشي بعكس ذلك تماما، فهي لا تأبه بزيادة نقاط الاتفاق، ومحو نقاط الاختلاف، بل تسعى إلى الانتصار كما في حلبة ملاكمة بالضربة القاضية.
يكثر التشدق بمصطلح الديمقراطية في بلدان لا يمكن أن توصف أنظمة الحكم فيها إلا بصفة الشمولية. صحيح أن لديها برلمانات شكلية، ولديها حكومات ووزراء، ولها دساتير وقوانين، لكن الديمقراطية فيها مختلفة تماما عن الديمقراطية في الغرب، وإن تحرت أشكالها الظاهرية.
في العالم الواسع، إذن، ربما أمكن الحديث عن ديمقراطيات، إنما بالتأكيد ليس عن شكل واحد من الديمقراطية. هناك فوارق بين أشكال الديمقراطية في جمهوريات شرق ـ أوربية وديمقراطية ملكيات اسكندنافية. هناك فوارق بين ديمقراطية بلد مثل ماليزيا وديمقراطية بلد مثل باكستان، وكذلك بين ديمقراطية بلد مثل تركيا وديمقراطية بلد مثل تركمنستان. هناك فوارق بين ديمقراطية الصين وديمقراطية كوريا الجنوبية.
بالرغم من أن مصطلح “الديمقراطية” يتكرر، إلا أن المعنى الكامن وراء الكلمة يختلف كثيرا من حيث الجوهر والممارسة معا. من العبث توقع صحة الشروط المألوفة لدى الغرب في بلدان أخرى من العالم.
في الغرب، من المرفوض بعد انصرام آثار الحرب العالمية الثانية أن يتقلد منصب الرئاسة شخص عسكري. ربما كان الجنرال شارل ديغول آخر جنرال عسكري تبوأ هذا المنصب في فرنسا عقب عمر قضاه من النضال ضد النازية.
في الغرب، لا بد أن يكون الرئيس مدنيا، فالعسكري له مهنة أخرى غير السياسة، ألا وهي الدفاع عن حدود الوطن.
أما في عديد من البلدان النامية، فالعكس هو الصحيح، بمعنى أنه إذا كان المرشح للرئاسة مدنيا، فلا بد كي يصبح مؤهلا لتقلد المنصب أن يقوم بدورة عسكرية مكثفة يتبعها ترفيع صاروخي كي يصبح الرئيس قائدا أعلى للقوات المسلحة. أما إذا تم الضغط على رئيس إحدى الدول لخلع البزة العسكرية، وإزالة الرتب، فالمرجح أن تكون تلك مقدمة لحدوث انقلاب ضده، أو اضطراره للتنحي طوعا عن الحكم أمام تظاهرات حاشدة تندد بديكتاتوريته أو هجمة سياسية من أحد معارضيه.
في السياسة، يقع المتشبثون بنقاط ثابتة في خطيئة كبيرة، لأنه من الصعب المطابقة بين المفاهيم الغربية ـ سواء الأنغلوساسكونية أو الفرانكفونية ـ ومفاهيم الشرق الأوسط أو شبه القارة الهندية أو أميركا اللاتينية أو أواسط أفريقيا. لا أعني هنا تفضيل تقاليد الغرب على الشرق، أو الشرق على الغرب، وإنما أكتفي بمجرد ذكر حقيقة قائمة.
عندما تقدم دولة ما بالتفاوض على قضية ما مع دولة ذات طراز مختلف، يفترض أن يضع المتفاوضون في اعتبارهم سمات الاختلاف في الحسبان، وإلا فسينتهون إلى مأزق أو يسيرون في درب مسدود. سيسعى كل طرف إلى “جر اللحاف إلى جهته”، كما يقول المثل، وينتهي الأمر بحوار مثل “حوار الطرشان”، الذي يغنّي كل طرف فيه على ليلاه دون سماع الطرف الآخر.
لا شك أن عملية الشد والجذب في التفاوض تحركها دوافع المصلحة، إنما يجب على من يرغب بالنجاح وللتوصل إلى حل مقبول أن يدرك أن التوصل إلى اتفاق يعني ضرورة الالتقاء في نقطة ما في الوسط، والاعتراف بحق الآخر نسبيا، وتقديم قدر من التنازل عن أقصى الطموح المنشود من قبل كل من الجهتين المتفاوضتين، وإلا فالمفاوضات محكوم عليها بالفشل سلفا قبل أن تبدأ.
أولى المشاكل التي قد تفوت بعض المتفاوضين المثاليين وتؤدي بالمفاوضات إلى فشل ذريع حتى لو أدت إلى توقيع اتفاق ما بالأحرف الأولى، هي تجاهل أسس “المساومة”، وبالأحرى “المقايضة”. ثاني هذه المشاكل هو شعور أي من الجهتين مسبقا بالقوة المطلقة والانتصار التام قبل خوض المفوضات، لأنه لو لم ترغب كلاهما بتجنب الاقتتال وإطالة أمد الخلاف القائم إلى ما لا نهاية، فإن التفاوض بحد ذاته لم يكن له أن يبدأ.
بمجرد القبول بمبدأ التفاوض، فإن المعنى المضمر هو أن كلا الطرفين في وضع لا غالب أو مغلوب، أو أنه لا يسمح دوليا بحدوث صدام في منطقة بعينها من العالم، مما يمكن أن يسبب تهديدا للاقتصاد العالمي، أو مصادر الطاقة، أو حرية الملاحة، أو أمن دولة معينة أو منظومة دول حليفة.
بالتالي، فالشروط التي يفترض منطقيا أن تطرح على طاولة الحوار هي الحد الأدنى من المصالح، ومن المبادئ أيضا. بالطبع، يحاول بعض من يقدمون على التفاوض رفع السقف ما أمكن ـ كما يقال ـ من أجل مزيد من الكسب عند الاضطرار إلى تقديم التنازلات من أجل التوصل إلى حلول وسط، لكن على كل جهة متفاوضة أن تدرك أن الشروط المطروحة يجب ألا تكون تعجيزية، وأن هناك خطوطا حمراء لدى كل من الطرفين لا يمكن القبول بانتهاكها.
بالتالي، يقتضي نجاح أي تفاوض في الدنيا أن يراعي إمساك العصا من الوسط، والاقتناع بأن الحل يكمن في اللقاء بالخصم في منتصف المسافة التي ترضي نسبيا آمال الطرفين.
الحرة