غسان شربل
«أفضل حماية للحاكم هي أن يظل حاكماً. جدران القصر أبرع الحراس. والويل لمن يفلت منه مقود القرار. لدى الناس ميل طبيعي إلى الثأر ممن يخسر قدرته على ترهيبهم. يفتحون دفاتر عهده بصحيحها وأخطائها ويلقون عليه مسؤولية كل شيء. يحملونه كل الأوزار بما في ذلك السيول والزلازل وتغيّر المناخ. ومطالبة حاكم بالتنحي توازي مطالبته بالانتحار. طول الإقامة في السلطة يجعلها جزءاً من جسد الحاكم وروحه. يجعل التنازل الطوعي عنها محتاجاً إلى ما يفوق قدرات البشر العاديين».
هذا ما سمعته ذات يوم في ذات عاصمة. قال مدير المخابرات: «أعجبني حديثك مع صاحب القرار. أسئلتك سريعة وتذهب إلى المسائل الحساسة من دون صياغة اتهامية. لا أخفي عليك أنني استغربت سؤالاً وتمنيت لو غاب. لكنني تذكرت أنك مقيم منذ سنوات في بريطانيا وطبيعي أن يتأثر المرء بثقافة الغربيين وأساليبهم، وهي بعيدة عن واقعنا».
استفسرت منه عن السؤال فأجاب: «في هذا الجزء من العالم يصعب أن تعتمد القاموس الذي يمكنك اعتماده في لندن أو باريس أو واشنطن أو العواصم المشابهة لها. نحن قصتنا مختلفة. حين تسأل صاحب القرار إن كان يفكر بالتقاعد فهذا يعني حكماً أن تجربته غير ناجحة. وحين تسأل رئيساً ممارساً إن كان يستطيع أن يحتمل لاحقاً لقب الرئيس السابق فإنك تلمح عملياً إلى أن القصر يحتاج إلى مقيم جديد. حتى الانتخابات عندنا أقرب إلى الاستفتاء. تستطيع صناديق الاقتراع البريطانية أن تخيب آمال زعيم من قماشة تشرشل. وتستطيع صناديق الاقتراع الفرنسية إحباط آمال قامة بحجم شارل ديغول. نحن لا صناديقنا تستطيع ولا بلداننا تستطيع».
تذكرت هذا الكلام ونحن نتابع منذ أسابيع مجريات الغليان الحالي في فنزويلا والسودان. في كاراكاس يتدفق المعارضون إلى الشوارع مطالبين الرئيس نيكولاس مادورو بالتنحي. وفي السودان تتكرر المظاهرات التي تطالب الرئيس عمر حسن البشير بالتنحي.
إننا نتحدث هنا عن دولتين تقيمان في قارتين متباعدتين. عن نظامين مختلفين. وعن رجلين يشرب كل منهما من قاموس لا يشبه الآخر. المشترك هو التدهور الاقتصادي. ونقص السلع والخدمات. ووجود ملايين النازحين. والتشكيك في نتائج الانتخابات.
ينتمي الزعيمان إلى جيلين مختلفين. فحين ولد مادورو في كاراكاس في 1962 كان البشير شاباً يحلم بالانتساب إلى الكلية الحربية السودانية التي تخرج منها في 1967. وحين استولى البشير ورفاقه على السلطة في 30 يونيو (حزيران) 1989 كان مادورو يتابع دورات في الماركسية اللينينية والاقتصاد السياسي في مدرسة الكوادر التابعة للحزب الشيوعي الكوبي. بعدها سيعمل سائق باص محاولاً تحقيق أحلامه النقابية واليسارية التي فضل الانضواء فيها على سلوك طريق الجامعة. قاد البشير وبالتواطؤ مع الدكتور حسن الترابي «ثورة الإنقاذ» لتخليص البلاد من اضطراب المدنيين والحكومة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي وانتابت مادورو رغبة المشاركة في «إنقاذ» بلاده.
لمادورو ثلاثة أساتذة تركوا بصماتهم على تفكيره وسلوكه ومفرداته. سيمون بوليفار الذي وقع كثير من شبان أميركا اللاتينية في سحر الروايات التي بجلت صورة محرر القارة. وفيديل كاسترو الذي انتصب طويلاً بثيابه الزيتونية شوكة في الخاصرة الأميركية. وهوغو شافيز الناري الغاضب الذي احتواه ورعاه ودفعه إلى الواجهة ثم اختاره وريثاً له حين فتك السرطان بحارس «الثورة البوليفارية».
تذكرت كلام مدير المخابرات. إننا نتحدث عن عالم آخر. يجب ألا نخلط مثلاً بين مادورو وتوني بلير. ولا بين عمر البشير وإيمانويل ماكرون. الديمقراطية ليست عباءة تقرر ارتداءها بين ليلة وضحاها. الديمقراطية سياق مشروط بتقدم اقتصادي واجتماعي وثقافي ومؤسسات وصمامات أمان. في الديمقراطية لا خيار أمام الحاكم إلا مغادرة القصر فور انتهاء ولايته. لا يملك ترف تكليف وزير الداخلية إجراء انتخابات معروفة النتائج سلفاً.
في أول الليل يجلس على شفير النيل. يغمض عينيه ويسترجع ثلاثة عقود صاخبة. الاحتماء بعباءة الترابي ثم خلعها رغم آلام الطلاق. حالف وخالف. وحارب وهادن. في الداخل والخارج. وتدرب على السباحة وسط العواصف وأتقن استباق الرياح أو مجاراتها. حكايات طويلة وشائكة. جاء أسامة بن لادن وراح. وجاء «أبونضال» وراح. وجاء كارلوس الفنزويلي الذي أرعب العالم وسُلّم في الليل إلى الفرنسيين الذين لا يزال يقيم في سجنهم. أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمر توقيفه وبقي. واستقال جنوب السودان من الخريطة وذهب مع نفطها وبقي الرئيس في القصر في الخرطوم. تحدث العالم عن مأساة دارفور والجنجاويد وبقي. عاند الإدارات والصواريخ الأميركية وبقي. هل يقبل اليوم بما رفضه دائماً؟ قال صراحة إن تغيير الحكومات والرؤساء «لا يتم عبر (واتساب) و(فيسبوك)»، مؤكداً أنه لن يغادر إلا عبر انتخابات ستشهدها البلاد في 2020.
مشكلة مادورو ليست فقط مع «واتساب» و«فيسبوك». خصمه الأكبر هو «تويتر». ففي تغريدة مفاجئة اعترف الرئيس دونالد ترمب بزعيم البرلمان والمعارضة خوان غوايدو رئيساً بالوكالة ودعا مادورو إلى التنحي. تغريدة كان لها وقع زلزال.
قبل عامين أجريت حواراً مع الرئيس البشير قال فيه إن الدستور يمنعه من الترشح بعد الانتخابات المقبلة. سألته: «هل سهل على من يحكم مدة طويلة أن يتعايش مستقبلاً مع لقب الرئيس السابق؟»، فأجاب: «ليس سهلاً فقط. إنه متعة». وروى أن شرطياً في الخرطوم أوقف تقدم المارة الذين كان بينهم ليمر موكب الرئيس السابق جعفر نميري وذكرني بتجربة المشير سوار الذهب.
مهنة الصحافي العربي شاقة فعلاً. كنت سمعت من قبل عن متعة لقب الرئيس السابق من الرئيس علي عبد الله صالح، رحمه الله، ومن آخرين.
هذا ما سمعته ذات يوم في ذات عاصمة. قال مدير المخابرات: «أعجبني حديثك مع صاحب القرار. أسئلتك سريعة وتذهب إلى المسائل الحساسة من دون صياغة اتهامية. لا أخفي عليك أنني استغربت سؤالاً وتمنيت لو غاب. لكنني تذكرت أنك مقيم منذ سنوات في بريطانيا وطبيعي أن يتأثر المرء بثقافة الغربيين وأساليبهم، وهي بعيدة عن واقعنا».
استفسرت منه عن السؤال فأجاب: «في هذا الجزء من العالم يصعب أن تعتمد القاموس الذي يمكنك اعتماده في لندن أو باريس أو واشنطن أو العواصم المشابهة لها. نحن قصتنا مختلفة. حين تسأل صاحب القرار إن كان يفكر بالتقاعد فهذا يعني حكماً أن تجربته غير ناجحة. وحين تسأل رئيساً ممارساً إن كان يستطيع أن يحتمل لاحقاً لقب الرئيس السابق فإنك تلمح عملياً إلى أن القصر يحتاج إلى مقيم جديد. حتى الانتخابات عندنا أقرب إلى الاستفتاء. تستطيع صناديق الاقتراع البريطانية أن تخيب آمال زعيم من قماشة تشرشل. وتستطيع صناديق الاقتراع الفرنسية إحباط آمال قامة بحجم شارل ديغول. نحن لا صناديقنا تستطيع ولا بلداننا تستطيع».
تذكرت هذا الكلام ونحن نتابع منذ أسابيع مجريات الغليان الحالي في فنزويلا والسودان. في كاراكاس يتدفق المعارضون إلى الشوارع مطالبين الرئيس نيكولاس مادورو بالتنحي. وفي السودان تتكرر المظاهرات التي تطالب الرئيس عمر حسن البشير بالتنحي.
إننا نتحدث هنا عن دولتين تقيمان في قارتين متباعدتين. عن نظامين مختلفين. وعن رجلين يشرب كل منهما من قاموس لا يشبه الآخر. المشترك هو التدهور الاقتصادي. ونقص السلع والخدمات. ووجود ملايين النازحين. والتشكيك في نتائج الانتخابات.
ينتمي الزعيمان إلى جيلين مختلفين. فحين ولد مادورو في كاراكاس في 1962 كان البشير شاباً يحلم بالانتساب إلى الكلية الحربية السودانية التي تخرج منها في 1967. وحين استولى البشير ورفاقه على السلطة في 30 يونيو (حزيران) 1989 كان مادورو يتابع دورات في الماركسية اللينينية والاقتصاد السياسي في مدرسة الكوادر التابعة للحزب الشيوعي الكوبي. بعدها سيعمل سائق باص محاولاً تحقيق أحلامه النقابية واليسارية التي فضل الانضواء فيها على سلوك طريق الجامعة. قاد البشير وبالتواطؤ مع الدكتور حسن الترابي «ثورة الإنقاذ» لتخليص البلاد من اضطراب المدنيين والحكومة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي وانتابت مادورو رغبة المشاركة في «إنقاذ» بلاده.
لمادورو ثلاثة أساتذة تركوا بصماتهم على تفكيره وسلوكه ومفرداته. سيمون بوليفار الذي وقع كثير من شبان أميركا اللاتينية في سحر الروايات التي بجلت صورة محرر القارة. وفيديل كاسترو الذي انتصب طويلاً بثيابه الزيتونية شوكة في الخاصرة الأميركية. وهوغو شافيز الناري الغاضب الذي احتواه ورعاه ودفعه إلى الواجهة ثم اختاره وريثاً له حين فتك السرطان بحارس «الثورة البوليفارية».
تذكرت كلام مدير المخابرات. إننا نتحدث عن عالم آخر. يجب ألا نخلط مثلاً بين مادورو وتوني بلير. ولا بين عمر البشير وإيمانويل ماكرون. الديمقراطية ليست عباءة تقرر ارتداءها بين ليلة وضحاها. الديمقراطية سياق مشروط بتقدم اقتصادي واجتماعي وثقافي ومؤسسات وصمامات أمان. في الديمقراطية لا خيار أمام الحاكم إلا مغادرة القصر فور انتهاء ولايته. لا يملك ترف تكليف وزير الداخلية إجراء انتخابات معروفة النتائج سلفاً.
في أول الليل يجلس على شفير النيل. يغمض عينيه ويسترجع ثلاثة عقود صاخبة. الاحتماء بعباءة الترابي ثم خلعها رغم آلام الطلاق. حالف وخالف. وحارب وهادن. في الداخل والخارج. وتدرب على السباحة وسط العواصف وأتقن استباق الرياح أو مجاراتها. حكايات طويلة وشائكة. جاء أسامة بن لادن وراح. وجاء «أبونضال» وراح. وجاء كارلوس الفنزويلي الذي أرعب العالم وسُلّم في الليل إلى الفرنسيين الذين لا يزال يقيم في سجنهم. أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمر توقيفه وبقي. واستقال جنوب السودان من الخريطة وذهب مع نفطها وبقي الرئيس في القصر في الخرطوم. تحدث العالم عن مأساة دارفور والجنجاويد وبقي. عاند الإدارات والصواريخ الأميركية وبقي. هل يقبل اليوم بما رفضه دائماً؟ قال صراحة إن تغيير الحكومات والرؤساء «لا يتم عبر (واتساب) و(فيسبوك)»، مؤكداً أنه لن يغادر إلا عبر انتخابات ستشهدها البلاد في 2020.
مشكلة مادورو ليست فقط مع «واتساب» و«فيسبوك». خصمه الأكبر هو «تويتر». ففي تغريدة مفاجئة اعترف الرئيس دونالد ترمب بزعيم البرلمان والمعارضة خوان غوايدو رئيساً بالوكالة ودعا مادورو إلى التنحي. تغريدة كان لها وقع زلزال.
قبل عامين أجريت حواراً مع الرئيس البشير قال فيه إن الدستور يمنعه من الترشح بعد الانتخابات المقبلة. سألته: «هل سهل على من يحكم مدة طويلة أن يتعايش مستقبلاً مع لقب الرئيس السابق؟»، فأجاب: «ليس سهلاً فقط. إنه متعة». وروى أن شرطياً في الخرطوم أوقف تقدم المارة الذين كان بينهم ليمر موكب الرئيس السابق جعفر نميري وذكرني بتجربة المشير سوار الذهب.
مهنة الصحافي العربي شاقة فعلاً. كنت سمعت من قبل عن متعة لقب الرئيس السابق من الرئيس علي عبد الله صالح، رحمه الله، ومن آخرين.
الشرق الأوسط