أقلام يورابيا

الكنّاس

الأب ميلاد جاويش

رأيتُه في البرد القارس خارجًا يكنس الطريق. الجميع بقربه يمرّون: هذا يذهب إلى بيته، وذاك إلى مكتبه الدافئ، وأولئك إلى مدارسهم وجامعاتهم… أمّا هو فالطريق مكتبُه والمكنسة قلمُه وكتابه. رأسُهُ والأرض، يصنع الحركة نفسها الاف المرّات: يحرّك مكنسته يمنةً ويسرة، يسرةً ويمنة. يفتّش عن الأوراق الصفراء في كلّ زاوية، في كلّ شبر. يجمعها ورقةً ورقةً بصمت، كأنّه يمسح اصفرار الأرصفة…

البارحة صنع الأمر نفسه، واليوم عادت الأوراق. لا أخالُ الكنّاسَ يعاتب الهواء على غَدره ولا الشَجر على تعرّيه. لماذا يعاتب الهواء، والهواء لا يفعل إلاّ ما عليه أن يفعله؟ ولمَ يغضبُ على الشجر، والشجر يتعرّى ليُجدّد نفسه ويستحمّ تحت المطر؟ الكنّاس لا يعاتب أحدًا، لا الهواء ولا الشجر. لو لم يتلاعبا لكان هو بلا عمل. هما مصدر رزقه. قليلون الناس الذين يرون الخير في كلّ شيء. نادرون الذين يحسبون الاختلاف بين الكائنات نعمةً لا نقمة. والكنّاس واحدٌ من هؤلاء.

الكنّاس فيلسوف الطرقات، ناسكُ الأرصفة. رجاؤه لا يَخيب. غريب كيف لا ييأس هذا الرجل! يكنس ولا ينظر وراءه. يمرّ هذا ويرمي قذارة، وذاك ورقة، وتلك عقب سيجارة… والكنّاس يكنس وسخَ الناس بهدوء، بصبرٍ يحاكي صبرَ الله.

أتُراه لا يدري ما يعملون؟ بلى. يدري أنّهم سيرمون اليوم وغدًا وبعد غد، هم، والشجر ما دام عليه ورقة صفراء. الكنّاس صورة الله على الطرقات! يغسل أوساخَ الناس من دون كَلَل!

“الكنّاس”، لغةً، من مكنسته. أداتُه اسمُه. كيف لا وهي رفيقة نهاره؟ ربّما ترافقه ويرافقها أكثر ممّا يترافق وأولاده. أخاله يحادثها مرّة بعد مرّة، يخبرها عن فرحه وشجنه، عن أمله وألمه، عن الناس الذين يوجعونه وأولئك الذين يُفرحونه. يخبرها عن ذلك المارّ الذي يُهرول لاهثًا عساه يَلحق الزمن الهارب، عن تلك الأمّ التي تَجرّ حنانها مع عربة طفلها، عن ذينِكَ العاشقَين اللذَين يخرج لهبُ الحبّ من جسدهما، عن ذلك الشيخ الذي يتنبّه لخطواته كي يعود إلى بيته سالمًا… والمكنسة تُصغي إلى أخباره وتنصاع ليَدَيه ردًّا لجميل العشرة.

الكنّاس… ما أصدقَه! خبرته في الناس تفوق اللآلئ غنىً. يعرف أسرارَ الجميع من غير أن يعلم أحدٌ أنّه مخزن الأسرار.

هكذا كان ذلك الكنّاس الذي رأيتٌه من شبّاك غرفتي الدافئة.

***

الحياة كتاب، صفحاتها مَلأى عِبَرًا. أَحَبُّ الناس إليّ هم مَن يتعلّمون دائمًا ومن كلّ شيء، هم مَن لا يبرحون “تلاميذ” في مدرسة الأيّام. يكفي أن ننظر بعين سليمة كي نتعلّم. الشجرة معلّمة، الوردة التي تُقطَف اليوم وتَذبل غدًا، الحجر الجامد كما الكائنُ الحيّ… ما يُدهشني في يسوع، في الإنجيل، مقدرتُه على اقتباس العِبَر من الطبيعة، من طيور السماء وزنابق الحقل: “أُنظروا إلى طيور السماء كيف لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء، وأبوكم السماويّ يرزقُها… أنظروا زنابق الحقل كيف تنمو، فلا تجهد ولا تغزل. أقول لكم: إنّ سليمان نفسه في كلّ مجده لم يلبس مثلَ واحدةٍ منها”.

الكنّاس كأستاذ الجامعة، لهما عليّ دَين التوقير. كلاهما لقَّنني درسًا، الثاني بدرايةٍ منّي، والأوّل على غفلة. الناس أجناس، ألوان، طوائف. لكن ما يجمعها هي الكرامة الإنسانيّة. أيّ تعليم أو مُعتقد يُفرّق بدل أن يَجمع، حلالٌ أن يُرذَل. مجدُ الله لا يأتي على حساب البشر، في تفريقهم شِيَعًا، في تمزيق وحدتهم، في استعلاء بعضهم على بعض. “مجدُ الله هو الإنسانُ الحيّ”، قال إيريناوس الليونيّ من القرن الثاني.

الإنسان أوّلاً. هذا شعاري ولو كَفَّرني كُثُر. لو لم يكن الإنسان، مَن كان ليذكرَ الله؟ وُجد ذاك، فَوُجد هذا. أخال ربّي لا يحزن لقولي هذا. حسبه أن أَتكلَّل بالحبّ كي يتمجّدَ هو. أيُّ أبٍ يا تُرى لا يرغب في أن ينقصَ كي يكبرَ ابنُه؟

ذاك الكنّاس، كم أيقظ فيّ من كرامة!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق