السلايدر الرئيسيشرق أوسط
الخونة الوطنيّون.. وأزمة إسقاط الطائرة الروسيّة بين بوتين ونتنياهو!
جمال دملج
– بيروت – بصرف النظر عن فجاجة الأسلوب الذي استخدمه المدير السابق لدائرة التعاون الدوليّ في وزارة الدفاع الروسيّة الفريق أوّل ليونيد إيفاشوف في معرض تعليقه على حادثة إسقاط طائرة الاستطلاع (إيل 20) قبالة الساحل السوريّ ليلة السابع عشر من شهر أيلول (سبتمبر) الجاري، ولا سيّما بعدما ظهر على شاشات التلفزة للإعراب عن أسفه أمام عامّة الناس جرّاء “وجودِ خونةٍ في القيادة الروسيّة يمتثلون لأوامر تلّ أبيب وليس لأوامر الرئيس فلاديمير بوتين”، على حدّ قوله، فإنّ تزامُن إطلاق هذا الاتّهام المدوّي مع استمرار تبايُن المواقف والتقديرات في العواصم المعنيّة بالكشف عن حقيقة الملابسات المتعلِّقة بتلك الحادثة التي أودت بحياة خمسة عشر عسكريًّا روسيًّا في غضون ثوانٍ معدودةٍ فقط، سرعان ما أدّى إلى إخراج التبايُن المذكور عن مساره الضيِّق والمتراوِح أصلًا ما بين تحميل سلاح الجوّ الإسرائيليّ كامل المسؤوليّة عمّا حدث وما بين إلقاء اللوم على منظومة الدفاعات الصاروخيّة السوريّة القديمة، تمامًا مثلما أدّى أيضًا في الموازاة، وهنا الأهمّ، إلى إبراز الحاجة القصوى لإجراء مقارباتٍ جديدةٍ ومتأنّيةٍ، على المستوييْن الإقليميّ والدوليّ، حول حجم النفوذ الذي لا يزال يحظى به اللوبي اليهوديّ الروسيّ داخل قصر الكرملين، ومدى تأثير هذا النفوذ على تحديد آفاق العلاقات الروسيّة – الإسرائيليّة في المستقبل، بعيدًا عن الانسياق وراء فجاجة مصطلحات التخوين والدخول في متاهات مشتقّاتها الدعائيّة المغرضة.
الارتياب المتبادَل
لا شكّ في أنّ الإعلان الشهير الذي جاء بالفم الملآن على لسان رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو في شهر حزيران (يونيو) عام 2016 عن أنّ “العلاقات الوطيدة بين موسكو وتلّ أبيب مفيدةٌ للأمن القوميّ الإسرائيليّ” لم يصدر بمحض الصدفة على الإطلاق، بل أتى كنتيجةٍ منطقيّةٍ لإجراءات إعادة بناء الثقة التي أقدم عليها الجانبان من أجل إزالة قواعد الارتياب المتبادَل من لغة التخاطب المشترَكة بينهما، وذلك بعدما قُدِّر لهذا الارتياب أن يظلّ حاضرًا بقوّةٍ بين مسؤولي البلدين طيلة سنوات العقد الأوّل من الألفيّة الثالثة على خلفيّة إرهاصات ما لعبته الشخصيّات النافذة في المؤتمر اليهوديّ الروسيّ من أدوارٍ مشبوهةٍ للحيلولة دون اكتمال فرص إيصال فلاديمير بوتين إلى سدّة الرئاسة على مدى الأشهر الأربعة الأخيرة من عام 1999.
وإذا كان أصحاب هذه الشخصيّات من أمثال بوريس بيريزوفسكي وميخائيل خودروكوفسكي وفلاديمير جوسينسكي وألكسندر سمولينسكي وميخائيل فريدمان وفاليري مالكين قد تحصّنوا بـ “الأوليغارشيّة” من أجل شنّ هجومهم الاستباقيّ على فلاديمير بوتين، أملًا في أن يمكِّنهم ذلك من مواصلة سيطرتهم على مفاصل الاقتصاد الروسيّ، وخصوصًا بعدما بلغت نسبة ممتلكاتهم أثناء مرحلة حكم الرئيس (الراحل) بوريس يلتسين نحو سبعينَ في المئةِ في قطاع النفط والغاز الطبيعيّ، ومئةٍ في المئةِ في قطاع السماد الزراعيّ، وثمانينَ في المئةِ في قطاع صناعة السيّارات، وستّينَ في المئةِ في قطاع صناعة الطيران المدنيّ، وخمسةٍ وثمانينَ في المئةِ في قطاع الأخشاب، وسبعينَ في المئةِ في قطاع البنوك والمصارف، وثمانينَ في المئةِ في قطاع شركات التأمين، وخمسةٍ وستّينَ في المئةِ في قطاع الإعلام المرئيّ والمكتوب والمسموع، علاوةً على أنّهم تسبّبوا في تكبيد روسيا خسائرَ ماليّةٍ فاقت قيمتها الثلاثة تريليونات دولار على خلفيّة برامج الخصخصة التي أهَّلتهم لشراء ممتلكات الدولة بأسعارٍ بخسةٍ، الأمر الذي أتاح لهم الفرصة لتحقيق الثراء الفاحش والسريع، وبالتالي للحصول على نفوذٍ كبيرٍ في الحياة السياسيّة، فإنّ وصول غوغائيّة هذا الهجوم الاستباقيّ إلى حدّ قيام بوريس بيريزوفسكي بتمويل عمليّة دخول القائديْن الشيشانيّيْن المتطرّفيْن شامل باساييف وابن الخطّاب على رأس ألفٍ وأربعمئةِ “مقاتلٍ جهاديٍّ” إلى جمهوريّة داغستان يوم السابع من شهر آب (أغسطس) عام 1999، أملًا في جرّ القوّات الاتّحاديّة الروسيّة إلى حربِ استنزافٍ طويلةِ الأمد في الشيشان، وتمهيدًا لإلحاق الهزيمة بها هناك على غرار ما حصل خلال الحرب الأولى بين عاميْ 1994 و1996، وفقًا لما صرَّح به بيريزوفسكي نفسه لاحقًا، فاق من حيث تجلّيات دهائه وخبثه كلّ التصوّرات، نظرًا لأنّ دائرة الاستهداف لم تقتصر وقتذاك على محاولة النيْل من هيبة فلاديمير بوتين وحده بقدْر ما حاولت النيْل من كافّة مقوّمات وركائز الأمن القوميّ الروسيّ.
الانعطافة التاريخيّة
على هذا الأساس، يصبح في الإمكان القول إنّ الحديث عن مسار العلاقات الروسيّة – الإسرائيليّة خلال السنوات الثماني عشرة الماضية لا يمكن أن يستوفي حقّه كاملًا، سواءٌ في مجال الرصد والمتابعة أم في مجال البحث والتمحيص، من دون الرجوع إلى نقطة التحوُّل المنبثقة عن رمزيّة ما حدث خلف جدران قصر الكرملين قبيْل حلول لحظة الانعطاف التاريخيّة ما بين القرن العشرين وما بين القرن الحادي والعشرين، ولا سيّما إذا وضعنا في الحسبان البديهيّة المتمثِّلة في أنّ أصداء الاستقالة المفاجئة التي قدّمها الرئيس (الراحل) بوريس يلتسين في خطابه المتلفز ليلة رأس السنة عام 1999 لصالح “خليفته المختار” فلاديمير بوتين، لم تقتصر على التردُّد ضمن نطاق المساحات الشاسعة لروسيا الاتّحاديّة وحدها وحسب، بل كان لها أيضًا تأثيراتها الفعّالة ونواقيسها الطنّانة في أماكنَ مختلفةٍ من العالم، بما فيها إسرائيل التي كان لا بدّ لها من أن تستشعر الدرجة المرتفعة للخطر الداهم إليها على إيقاع هذا التطوُّر الهامّ أكثر من سواها، وذلك بعدما أدركت نخبتها الحاكمة في تلّ أبيب إلى حدّ اليقين الكامل أنّ كافّة محاولات من كانوا يوصَفون بـ “أبنائها المدلّلين” من الأوليغارشيّين الروس للحيلولة دون وصول بوتين إلى سدّة الرئاسة باءت في نهاية المطاف بالفشل الذريع.
ومع الأخذ في الاعتبار مسبَقًا عدم ظهور أيِّ دليلٍ حسّيٍّ واحدٍ على ضلوع إسرائيل أو تورُّطها في الوقوف وراء أيِّ عملٍ من شأنه أن يهدِّد أمن روسيا وسلامة أبنائها من قريبٍ أو من بعيدٍ أو في منزلة ما بينهما، خدمةً لأولئك الأوليغارشيّين، فإنّ تمايُز الرئيس بوتين بملَكَته الأمنيّة الخاصّة التي تؤهِّله لكي يبقى دائمًا على درجةٍ عاليةٍ من الاستشعار غالبًا ما ظلّ يحتِّم عليه توخّي الحذر عن طريق عدم الإسراف في الكشف عن كامل محتويات خططه وتوجُّهاته أمام زوّاره من المسؤولين الإسرائيليّين، الأمر الذي دفع معظمهم في بدايات عهده إلى معاملته بالمثل، سواءٌ عن طريق مبادلته الحذر بالحذر أم عن طريق عدم التردُّد في مصافحة يده والدعاء عليها بالكسر في آنٍ معًا، ولا سيّما أنّ أولى نذائر العهد البوتينيّ على الساحة الإسرائيليّة ما لبثت أن تجلّت وقتذاك لدى فقدان الدولة العبريّة الأمل بشكلٍ نهائيٍّ في تملُّك حصّةٍ وازنةٍ من أسهم شركة “غازبروم” العملاقة، بعدما كانت المساعي التي بذلتها تلّ أبيب في هذا المجال، عن طريق الأوليغارشيّين الروس، قد أوشكت على أن تتكلّل بالنجاح قبيل انتهاء عام 1999 وطيّ الورقة الأخيرة من روزنامة القرن العشرين.
بين بيريز ونتنياهو
وإذا كان ما تقدَّم كافيًا للدلالة إلى أنّ رياح الكرملين راحت تجري اعتبارًا من مطلع الألفيّة الثالثة بعكس ما تشتهي سفن الأوليغارشيّين من أعضاء المؤتمر اليهوديّ الروسيّ، فإنّ المسؤولين الإسرائيليّين، وفي موازاة الإشارات المتتالية التي أطلقتها روسيا بخصوص اعتزامها العمل على استعادة دورها كاملًا كراعيةٍ ثانيةٍ للعمليّة السلميّة في منطقة الشرق الأوسط، ظلّوا يتعاملون بحذرٍ وارتيابٍ مع طموحات إدارة الرئيس بوتين، ولكن من دون قطع خطوط الاتّصال المباشِرة بين تلّ أبيب وموسكو في أيّ يومٍ من الأيّام، الأمر الذي تجلّى في قيام العشرات منهم بتكثيف زياراتهم الرسميّة للعاصمة الروسيّة، وعلى رأسهم شمعون بيريز وأرييل شارون وموشيه كاتساف وبنيامين نتنياهو، وهي الزيارات التي كانت تتمّ ردًّا على زيارتٍ رسميّةٍ مماثلةٍ للقادة والمسؤولين العرب من أمثال ياسر عرفات وعلي عبد الله صالح ورفيق الحريري ونايف حواتمة وطارق عزيز وعبد الرحمن شلغم ومصطفى طلاس وغيرهم، تمامًا مثلما كانت تتمّ أيضًا على أساس مرجعيّة الموقف الذي عبّر عنه بيريز عام 2000 عندما قال “إنّ صوت روسيا المعتدل، وغير المنحاز لطرفٍ ضدّ طرفٍ آخر، سيكون مسموعًا أكثر في المحافل الدوليّة”، قبل أن يتغيّر أساس هذه المرجعيّة بشكلٍ جذريٍّ في ضوء التصريح الشهير الذي أدلى به نتنياهو بعد ستّة عشر عامًا، وتحديدًا في شهر حزيران (يونيو) عام 2016، وخصوصًا عندما قال “إنّ العلاقات الوطيدة بين موسكو وتلّ أبيب تفيد الأمن القوميّ الإسرائيليّ”.
الورقة السوريّة
لا شكّ في أنّ النتائج الميدانيّة ذات الأبعاد السياسيّة والعسكريّة والاستراتيجيّة التي تحقّقت في ضوء بدء الحرب الروسيّة على الإرهاب في سوريا يوم الثلاثين من شهر أيلول (سبتمبر) عام 2015 كانت من بين الأسباب الرئيسيّة التي أدّت إلى حدوث هذه الانعطافة الإسرائيليّة الهامّة ما بين الاستثمار في مرجعيّة موقف شمعون بيريز وما بين البناء على مرجعيّة موقف بنيامين نتنياهو، ولا سيّما أنّ مفاعيل الانخراط العسكريّ الروسيّ في تداعيات الأزمة السوريّة لم تعُد توشك على أن تكرِّس روسيا باعتبارها اللاعب الأقوى في سوريا وحسب، وإنّما في منطقة الشرق الأوسط برمّتها أيضًا.
وعلاوةً على ذلك، فإنّ ثمّة سببًا هامًّا آخر للانعطافة الإسرائيليّة لم يأخذ حتّى الآن حقّه كاملًا من الدراسات والبحوث والتحليلات، ويتمثّل في أنّ صعود نجم الرئيس فلاديمير بوتين في المجاليْن الدوليّ والإقليميّ، على خلفيّة إنجازاته اللافتة على الساحة السوريّة، وما ترافق مع هذه الإنجازات من استنهاضٍ للشعور القوميّ في أوساط أكثر من مليون يهوديٍّ روسيٍّ ممّن قُدِّر لهم أن يهاجروا من جمهوريّات الاتّحاد السوفييتيّ السابق إلى ما يُسمَّى بـ “أرض الميعاد” في ثمانينيّات وتسعينيّات القرن العشرين، أدّى بدوره إلى دغدغة حنينهم وولائهم لأوطانهم الأمّ، سواءٌ في روسيا أم في أوكرانيا أم في غيرهما من الدول التي كانت ترفع الراية السوفييتيّة الحمراء، الأمر الذي كان لا بدّ من أن يضعه بنيامين نتنياهو في الحسبان لاعتباراتٍ انتخابيّةٍ محليّةٍ في المستقبل، علمًا أنّ غالبيّة أبناء الجالية اليهوديّة الروسيّة في إسرائيل، وبحسب ما هو واردٌ في الكتاب الصادر بالعبريّة عام 2012 تحت عنوان “مليون يهوديٍّ غيَّروا الشرق الأوسط” لمؤلِّفيْه ليلي غليلي ورومان برونفمان، لم يُسجَّل عليها أنّها انخرطت يومًا في تبنّي الفكر الصهيونيّ أو في تقديم الولاء كاملًا للمجتمع الإسرائيليّ، ولا سيّما أنّها بقيت محافظةً على طقوسها الأصليّة، ثقافيًّا واجتماعيًّا ووطنيًّا وقوميًّا، وبما يقطع ما بين الشكّ وما بين اليقين بأنّ هجرتها لم تحصل في الأساس بناءً على أيِّ وجهاتِ نظرٍ أيديولوجيّةٍ خالصة.
جائزة المليون
وإذا كان سيل الأمثلة على ذلك له أوّل وليس له آخِر، وخصوصًا من جهة إدراك اليهود الروس في الآونة الأخيرة بأنّ تشجيعهم على الهجرة إلى إسرائيل تمّ في الأصل على خلفيّة صفقةٍ بقيمة مليون دولارٍ أميركيٍّ أبرمتها الدولة العبريّة مع الرئيس الرومانيّ (الراحل) نيقولاي تشاوسيسكو من أجل ضمان ترجيح كفّة اليهود في ميزان التركيبة الديموغرافيّة للكيان الإسرائيليّ على كفّة الفلسطينيّين العرب، فإنّ تماسكهم الواضح على مرّ السنوات الطويلة الماضية بالمقارنة مع طوائفَ وجالياتٍ أخرى في التركيبة السكّانيّة الإسرائيليّة، سواءٌ من حيث احترام طقوسهم وعاداتهم الأصليّة أم من حيث التفاعل مع جمعيّاتهم ووسائل إعلامهم الخاصّة والناطقة باللغة الروسيّة، هو الذي جعل منهم في نهاية المطاف “بيضة القبّان” التي تدلّ كافّة المؤشّرات على أنّ الرئيس بوتين عازمٌ على المضيّ قُدمًا في السعي إلى مواصلة التفاعُل معها لصالح مشروعه الشرق أوسطيّ الجديد، ولا سيّما بعدما أدرك، شأنه شأن نتنياهو، أنّ معادلة المليون يهوديٍّ روسيٍّ في إسرائيل هي المرشّحة في المستقبل لكي يكون لها بالغ الأثر في تحديد إبرة بوصلة الحرب والسلام، وربّما موازين احتمالات النصر والهزيمة أيضًا، علمًا أنّ نسبة التفاؤل حيال إمكانيّة انبثاق فجر هذا الواقع الجديد على المدى المنظور لا تزال مستعصيةً في الوقت الراهن على التقدير، نظرًا لأنّ كافّة المؤشّرات المتوافرة لغاية الآن ما زالت تدلّ إلى أنّ غالبيّة الدول العربيّة، قادةً وشعوبًا، لم تدرك ما أدركه بوتين ونتنياهو بعد، وذلك على رغم أنّ الخبراء الاستراتيجيّين المستقلّين، العرب منهم وغير العرب، لم يقصِّروا يومًا في الإعلان بصريح العبارة عن أنّه لولا براغماتيّة الرئيس الروسيّ في إدارة الملفّات الدوليّة والإقليميّة لما كان سيُقدَّر لمنطقة الشرق الأوسط أن تتجنَّب خلال الأشهر القليلة الماضية وحدها خطر الانزلاق إلى معمعة ثلاثِ حروبٍ عبثيّةٍ كبرى على الأقلّ.
بين الخونة والوطنيّين
من هنا، وانطلاقًا من أنّ لا أحد يريد المجازفة بخوضِ حروبٍ جديدةٍ في المنطقة بقدْر ما يريد تفادي وقوعها، اللهمّ باستثناء الأميركيّين الذين درجت العادة خلال التاريخ الحديث على أن يحوِّلوا أزماتهم السياسيّة والاقتصاديّة الداخليّة إلى حملاتٍ عسكريّةٍ خارجيّةٍ، فأغلب الظنّ أنّ الأيّام القليلة المقبلة، وإنْ كانت ستحمل في مجرياتها الكثير من التصريحات المتشنِّجة والمواقف الكيديّة على خطّ التوتُّر العالي بين موسكو وتلّ أبيب، خدمةً لاعتباراتٍ تتعلَّق إمّا بعزّة النفس وإمّا بالمحافظة على ماء الوجه، ولكنّها ستُفضي في نهاية المطاف، ومن دون أدنى شكٍّ، إلى تجاوز أزمة إسقاط طائرة الـ (إيل 20) بسلامٍ، على غرار ما حدث عام 2015 لدى تجاوز أزمة قيام سلاح الجوّ التركيّ باسقاط مقاتلة الـ (سوخوي) عند تخوم الحدود السوريّة، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الوضع الراهن بين موسكو وتلّ أبيب أقلُّ تعقيدًا بكثيرٍ ممّا كان عليه الوضع بين موسكو وأنقرة، ولا سيّما إذا أعدنا للذاكرة أنّ إسقاط الـ (سوخوي) تمّ عن سابقِ عزمٍ وتصميمٍ بينما تمّ إسقاط الـ (إيل 20)، في أسوأ الاحتمالات، عن طريق الخطأ.
أمّا بالنسبة إلى مصطلح “الخونة في القيادة الروسيّة” الذي استخدمه الفريق أوّل ليونيد إيفاشوف لدى استضافته في برنامج “قصارى القول” للزميل سلام مسافر على شاشة قناة “روسيا اليوم” مساء الثلاثاء الماضي، أيْ بعد مرور ساعاتٍ قليلةٍ فقط على وقوع الحادثة المؤلمة الأخيرة، فإنّ الأمانة المهنيّة والأخلاقيّة تحتِّم عليَّ القول إنّ هذا المصطلح لا يليق به ولا بالروح الروسيّة التي يُفترض أن يجسِّدها، ولا سيّما أنّ “الخائن” هنا، يمكن أن يوازيه في الوطنيّة وربّما أكثر، ولكن من خلال رؤيته للأمور من منظارٍ مختلِف… وحسبي أن أذكِّر في الختام بما جاء يومًا على لسان ناسك القلم اللبنانيّ ميخائيل نعيمة في إحدى مقارباته حول رواية “الحرب والسلم” لعميد الأدب الروسيّ ليو تولستوي، وخصوصًا عندما قال ما حرفيّته: “إنّ الروح الروسيّة تتطلَّع دائمًا إلى المحبَّة والتسامُح والسلام، وعدم مقاومة الشرّ بالشرّ، والبحث عن النظام في الفوضى، وعن الحياة في الموت”… وحسبي أنّ أكثر ما يحتاج إليه العالم في هذه الأوقات الحرجة، بما فيه هذا الشرق الأوسط المجنون والمسكون بأنظمته المعلَّبة، وبثوراته المستورَدة، وبأخلاقيّاته المهجَّنة، لا يعدو عن كونه مجرَّد نبضٍ من روحٍ روسيّةٍ تعلِّمه عدم مقاومة الشرّ بالشر على أقلِّ تقديرٍ، علّ وعسى أن تدبّ الحياة فيه مجدَّدًا، أو الحياء… والخير من وراء القصد.