كنّا معاً بنفس المدرسة في الصف العاشر، أنا بالشعبة الأولى وكانت هي بالثانية، لكن ذلك لم يمنع خيالي من الجموح و اختراع ” الكليبّات ” التي تجمعنا معاً، واذكر تماماً أن أجرأ لقطة جاد بها خيالي حينها كانت” لمسة يد مرتعشة وخجولة “، فلا محطات فضائية، ولا انترنت، لنستعين بهم على ” صروف الدهر ” .. وبما أن بيئتنا كانت محافظة فقد كان الإختلاط مقروناً بضوابط كثيرة يعلمها من هم في مثل سنّي، ومما زاد الطين بلّة، هو أن الفتيات كنّ يطبقن تعليمات أمهاتهن بحذافيرها، ويحرصن على ارتداء وجوههن بالمقلوب قبل الخروج من المنزل كل صباح، وكانت التكشيرة أو العبسة، إحدى أهم صفات الفتاة المحتشمة الوقورة في ذلك الوقت و ” علامة للجودة “.
كانت الحبيبة المفترضة جميلة جداً بالمقاييس الخارجية للجمال، و كان هذا أكثر من كافٍ بالنسبة لي في تلك المرحلة العمرية، فالوعي في طور التشكل، و المؤثرات البصرية هي سيدة المرحلة.
مضت الشهور ببطء منذ بدء الموسم الدراسي، ولم أجرؤ حتى على التفكير بإلقاء التحية عليها، لأنها ستتجاهلها حتماً، و قد ترد بتكشيرة، أو قد تجود علي ” بنظرة الإحتقار ” الدارجة إياها، وفي هذا دمار حقيقي لشاب يتلمس درب الرجولة ويرقب كل صباح – بفارغ الصبر – تكاثف الوبر على صفحة وجهه، كمزارع ينتظر غلالاً.
و في يوم مثلج من أيام شهر كانون الكئيبة، تم صرفنا باكراً من المدرسة بسبب سوء الأحوال الجوية، كانت ” الحبيبة ” تسير أمامي وحيدة في الشارع، مرتدية معطفا سميكاً، … لا أدري كيف انحنيت والتقطت بعض الثلج وبدأت بضغطه بين أصابعي حتى تشكلت منه كرة كبيرة، وأطلقتها باتجاهها بكل قوتي، فأصابت ظهرها الذي تقوّس للخلف من الألم، .. وقفت ونظرت إلي بعتب مغلف بكل ما في الكون من حزن وإنكسار لثوانٍ، ثم تابعت طريقها بصمت، أما أنا .. فقد عقدت الدهشة لساني، ولم أستوعب ما حصل للتو .. و مضيت نحو البيت أجرجر خلفي ندمي وعاري.
في المساء، كانت أسوأ السيناريوهات عن مضاعفات فعلتي الشائنة تلك، تتشكل في مخيلتي، و أغلب ظني كان متجهاً بأنها ستشكوني لمدير الثانوية الصارم الذي لا يتساهل أبداً بهذه المسائل، تخيلت العقوبة، والطرد، والأمر بإحضار الوليّ، ماذا سأقول لأبي الذي لن يتساهل معي هو الآخر؟.
قضيت احدى أطول، وأسوأ الليالي التي مرت علي في حياتي، وفي الصباح كنت أجرُّ أقدامي جرَّاً صوب المدرسة وأنا أتخيل كيف سيُذاع اسمي لكي أخرج من الطابور و أتوجه نحو الإدارة …
انتهى الإجتماع بعد ترديد الشعار، وتوجهنا نحو الشُّعَبْ، لم أصدق أني نجوت بفعلتي، توقعت أن يطلبني المدير في أية لحظة خلال النهار، عشت يومي هذا الى نهايته مترقباً، لكني نجوت …! لم تخبر المدير، ولا حتى أخاها، زميلنا في الدراسة… شعرت بالراحة، وعندما وصلت إلى البيت، نمت نوماً عميقاً.
توالت الأيام بعدها، ولوث الخجل و الشعور بالذنب احساسي اتجاهها، فأصبحت أتحاشى النظر إليها، لم أجرؤ أيضاً على الإعتذار، فردود أفعال البنات لا يمكن التنبؤ بها، وتجاربي كانت شبه معدومة، ولم أكن أُحسن القياس و التصرف في مثل هذه الأمور.
ثمانٌ وثلاثون شتاءً مرّ منذ ذلك الحين، وما زالت نظرة الإنكسار والحزن تلك، تخترقني كلما تذكرت الموقف المخزي، فأذوب خجلاً،
كم أود أن تقرأ ما كتبت ليكون هذا رسالة اعتذار لها.
لم أكن أقصد الأذى أبداً، كنت أحاول أن أخبرها، بأنها أثيرة عندي … لكني فشلت، وكنت أحمقاً كمعظم الرجال عندما يريدون إيصال فكرة لإمرأة يحبونها.