محمد المحمود
كان المفكر العربي القدير/ محمد عابد الجابري يؤكد على أن العقل الفقهي هو المُتسيّد/ المُهيمن على مجمل حراك الحضارة العربية على امتداد تاريخها الطويل. وطبعا، ليس الجابري هو الوحيد في هذا التأكيد، فهذا الرأي هو رأي معظم الدارسين للتراث العربي؛ إذ يبدو بوضوح أن العقلية الفقهية كانت تصوغ وعي الجماهير على مدى قرون متطاولة، وأنها انطبعت ـ إلى درجة كبيرة ـ بشعبوية جماهيرية؛ بقدر ما كانت هذه الجماهيرية الشعبوية تنطبع بها، بل وتخضع خضوعا تاما لهيمنتها المتصاعدة التي ترسخت مقوماتها في الواقع العملي منذ البدايات الأولى لعصور الانحطاط، وكانت تتساوق معه باطراد.
هذا هو التاريخ، التاريخ البعيد والقريب. لكن ماذا عن الحاضر، هل لا يزال العقل الفقهي هو المهيمن؟ هل لا يزال هو المُسيّر لمجمل الحراك الجماهيري، وبالتالي، هو الذي يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن بؤس الواقع؟
في الظاهر، يبدو أن الأمر كذلك. وكما أشرت في مقالات سابقة، فمعظم المنابر التي تعكس حركة توجه الجماهير هي منابر لـ”فقهاء” أو وعاظ/ دعاة يمتاحون مشروعيتهم من الخطاب الديني الفقهي. هذا ما تؤكده مواقع التواصل الشهيرة، والإعلام الفضائي الديني، فضلا عن المحاضرات والدروس الدينية التي يحتشد لها ألوف؛ مقارنة بعشرات في المحاضرات المعرفية/ الثقافية، بل وهذا ما تشهده التكتلات الجماهيرية الكبرى في بلد عربي كبير؛ كالعراق، حيث تستطيع المرجعية الدينية تحديد مسارات العمل الاجتماعي/ السياسي بقدرتها الفائقة على تحديد خيارات الجماهير.
هكذا يبدو الأمر في الظاهر، هكذا هي الصورة في المشهد الآني/ المباشر. لكن في العمق، يبدو أن المشهد الجماهيري الذي يهيمن عليه الفقيه/ الواعظ في طريقه إلى التلاشي، والأسباب كثيرة، يصعب حصرها هنا. وإذا كان من أهمها الانفتاح على المعرفة المعاصرة بكل تحدياتها التي تزلزل العقل الفقهي من أعماقه، فإن ضعف البنية الداخلية للعقل الفقهي، وتناقضاتها الداخلية، وبساطة مخرجاتها، ربما تكون أهم هذه الأسباب.
هناك من يرى أن استغناء “المُتديّن المعاصر” بالأساسيات الدينية (وهي المعروفة للجميع؛ بحيث لا تحتاج لفقيه)، وإهماله للهوامش والفرعيات غير الضرورية (وهي التي كان يحتاج فيها العامي إلى الفقيه)، إضافة إلى توفر المعلومات الفقهية الجاهزة، وكونها أصبحت في متناول أصابع اليد بمسحة عابرة على شاشة الجوال، كل هذا يشير إلى أننا بدأنا عصر نهاية الفقهاء.
في تقديري أن هذا كله له دور محوري في كتابة البداية لهذه النهاية، ولكن يبقى أن تزعزع الوثوقية المتوارثة في المنتج الفقهي هي التي تشكل العامل الأساس. فالمسلم المعاصر بدأ يدرك بوضوح أن “الفقه” لم يكن علما منضبطا بالدرجة التي كان يوهمه بها الفقهاء والواعظ/ الدعاة، بل إن الاضطرابات والتناقضات والفوضى العارمة في الاجتهادات بدت وكأنها تؤكد له أن الفقه ليس علما؛ بقدر ما هو مجموعة من الانطباعات الشخصية/ الذوقية التي تشكل تهميشا على المرويات الدينية، وأن محاولات “التقعيد العلمي” مجرد تبريرات لاحقة لهذه الانطباعات/ الذوقيّات؛ لأن هذا “التقعيد العلمي” لو كان له طابع العلم لم تنقلب الأحكام عند الفقهاء من النقيض إلى النقيض. فمثلا، ما يراه فقيه من الفقهاء (جهادا/ ذِرْوةَ سَنام الإسلام/ أفضل الأعمال بعد الصلاة وبر الوالدين… إلخ) يراه فقيه آخر (عدوانا وقتلا، وجزاء صاحبه الخلود في النار)؛ مع أنهما يفحصان ـ بفقههما/ بـ”علمهما” ـ واقعة واحدة. والأمثلة كثيرة في هذا السياق.
إن الاختلافات الفقهية وما تنطوي عليه أحيانا من تناقضات عميقة كانت موجودة منذ فجر التاريخ الفقهي. لكن، ما استجد الآن، هو معرفة عموم الجماهير بهذا، وسماعهم به، وتكرره بشكل بدأ يشكل تحديا جديا لعقولهم التي تحاول التماس مع عصر العقل. قبل هذا الانفتاح الإعلامي/ التواصلي، كان عموم الناس يتبعون فقهاء من مدرسة واحدة، ومن بيئة واحدة، تقلّ فيها الخلافات أو تنعدم. ولهذا لم يكونوا يتصورون أن ما يرونه حراما قطعيا؛ بحكم فتوى فقهائهم، يراه فقهاءُ آخرون حلالا قطعيا. كان يستمعون لفقهائهم ويتصورون أنهم ينطقون بالحق المبين الذي لا مِرْية فيه، وأنهم يصدرون بهذا عن مشكاة النبوة؛ “موقعين عن رب العالمين!”.
أول ما سمعت الجماهير بالخلافات والتناقضات الفقهية أصابها ما يشبه الصدمة، فبادرت تحتمي منها بتكذيبها، وإخراج ما لم تعتد عليه من دائرة الفقه الصحيح، لكن، بعد تواترها بدأت الثقة تتزعزع بالفقهاء المعاصرين؛ إذ تصورت هذه الجماهير التقليدية المنغلقة على تراثها الخاص أن هذه الخلافات والتناقضات ما هي إلا نتيجة تحولات الفقهاء المعاصرين، الذين بدأوا يتغيرون ويتنازلون تحت وطأة التحديات المعاصرة، وأن الفقه كعلم راسخ في التاريخ بريء من كل هذا الاضطراب الفوضوي، الذي بدأ يعصف بما كانوا يظنونه من البدهيات التي ليست محل نقاش.
أتذكّر الآن كيف كان الاضطراب الجماهيري الكبير بداية الانفتاح الإعلامي/ التواصلي، قبل خمسة عشر عاما تقريبا، وكيف كنت بحاجة إلى لفت انتباه الجماهير المتدينة إلى أن ما كانت تظنه “قطعيات الدين” ليست أكثر من انطباعات ذوقية تقارب النص الديني. كنت أقول بكل تبسيط ووضوح يشترطهما الخطاب الجماهيري: ليست التحولات التي نراها في المشهد الفقهي بجديدة، وأن مَن يأخذه العجب من انتقال الفتوى من النقيض إلى النقيض فهو لم يتمتع بالسياحة الفكرية في المدونات الفقهية المعتمدة في الخطاب الشرعي/ الديني.
لقد كنت بحاجة إلى التأكيد على أن تاريخ الفقه كله هو تاريخ آراء واختلافات وردود، وأن الشريعة ـ كما هي الخطاب الشرعي بعمومه ـ تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما تضافرت عليه النصوص الصحيحة الصريحة المعضودة بالإجماع العملي (كوجوب الصلاة عموما، عدد الركعات، تحريم السرقة… إلخ) وهذه قليلة ومحصورة، والأهم أنها معروفة من جميع المسلمين بحكم التدين الموروث، يعرفها تمام المعرفة جاهلهم وعالمهم، المتدين وغير المتدين. والقسم الثاني ـ وهو الأكثر الأعم ـ ما هو تفصيلي/ فرعي/ هامشي، ويحتاج إلى معرفة شرعية بمستوى ما، وهو مما وردت فيه نصوص؛ ولكن، إما أن ثبوتها ظني، وإما أن دلالتها ظنية، وإما أن النصوص فيه كثيرة متضاربة، وحتى بعضها، مما هو قطعي الدلالة اختلفت فيه الآراء، بل وجرى العمل بخلافه منذ أيام الأئمة/الصحابة، كما في إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم بتأويل طارئ؛ رغم كون النص فيه قطعي الدلالة قطعي الثبوت، وكعدم تقسيم أرض الفتوحات الأولى؛ رغم كون النص فيه قطعي الدلالة قطعي الثبوت… إلخ الأمثلة المعرفة في التاريخ الفقهي.
لا شك أن عدم استقرار آليات الاستنباط/ أصول الفقه من أهم الأسباب في وجود هذا الخلاف والاختلاف، بل والاضطراب. فمثلا، هل عليَّ أن أتبع النص قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة، فيما لو تعارض مع مصلحة يقينية، أو راجحة (كما في المثالين السابقين: سهم المؤلفة قلوبهم، وتقسيم أرض الفتوحات)؟ سؤال محوري، ولكن ليس ثمة إجابات مقنعة وحاسمة، بل مجرد آراء، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
إن ما يتحاشى كثير من الفقهاء الاعتراف به أن آليات الاستنباط ذاتها (أصول الفقه) هي ـ في الأصل ـ مجرد اجتهادات تأويلية على ضوء النصوص من جهة، وعلى ضوء تعامل الجيل الأول مع هذه النصوص (مع أن تعاملهم هذا هو اجتهادي أيضا!). ومَن قُدّر له أن يطلع على أهم المراجع في أصول الفقه التي يُراد لها أن تضبط عملية الاستنباط يجد الخلاف فيها واسعا، وقلّما تسلم قاعدة أصولية من اعتراضات تقل أو تكثر. وهذا يعني في النهاية أن “العلم الشرعي” يطلق عليه مصطلح “علم” من باب المجاز أو من باب المقاربة/ المشابهة للإجرائيات العلمية. وإلا فليس له ما للعلم التجريبي من انضباط منهجي؛ بحيث يكون الخلاف فيه، والتعقيب عليه زيادة أو نقصا، عملا مضبوطا يجري في أضيق الحدود، ويحتاج إلى اعتراف مؤسساتي واسع.
إن هذه السيولة في القواعد/ القوانين الفقهية، وكونها في الأصل مجرد اجتهادات تأولية؛ مهما زعم أصحابها الحسم فيها، جعلت التحولات الدراماتيكية من التحليل إلى التحريم ومن التحريم إلى التحليل سلوكا شائعا في التاريخ الفقهي، بل وفي تنوع الجغرافيا الفقهية في العصر الواحد، ليس في القضايا الخلافية فحسب، بل حتى في القضايا التي تواترت فيها النصوص أيضا. أما ما لم يرد فيه نص، وكان الحكم فيه مجرد استنباط ظني بقواعد عامة (كسد الذرائع مثلا)، أي قواعد تُحيل إلى إحداثيات الواقع، فإن التحوّل، بل والتناقض، هو المسلك المعتاد، بل وهو الطبيعي. ثم إذا أضفنا إلى ذلك كون الإجرائية الفقهية ذاتها أقرب إلى “المعرفة العامة” منها إلى “العلم التخصصي المنضبط”، عرفنا أن الفقيه محكوم ـ إلى درجة كبيرة ـ بالبيئة الاجتماعية/ الثقافية التي يتموضع فيها، وأن أفق وعيه لن يتجاوزها إلا في القليل النادر جدا (وهو الاستثناء). وطبيعي في مثل هذه الحال أن تكون الآراء الفقهية ليست أحكاما في الحقيقة، بل هي مجرد آراء عامة يستحسنها الفقيه في مرحلة ما؛ بحكم الحاضنة الثقافية، أو بحكم تحولات الواقع، أو بحكم المزاج الخاص، أو بحكم كل هذه مجتمعة متفاعلة على نحو جدلي خفي، بحيث تحكم مسار عملية التفقّه، ومن ثم مسار “الفقه الشرعي” ذاته، المسطور في مدونات الفقهاء، أو الذي في طريقه ليكون مسطورا.
إن كل هذا، وغيره مما كنت أكرر التأكيد عليه، أصبح اليوم معروفا لعموم جماهير المتدينين. وهي معرفة جماهرية واسعة تقود بلا شك إلى زعزعة الثقة في “الفقيه” الذي احتل موقعه المحوري في الحراك الاجتماعي بواسطة هذه الثقة التي كانت مطلقة أو شبه مطلقة عبر تاريخ طويل. والآن، هل أنا بحاجة أيضا لأضيف حقيقة باتت معروفة، وهي أن الاشتراطات التقليدية لـ”الاجتهاد الفقهي” ـ كما قررها التراث في عصور ازدهاره ـ لم تعد متوفرة في الفقهاء الجماهيريين اليوم، وأن هذا بدوره يسهم في طي صفحة تاريخ كان هو: عصر الفقهاء؟
الحرة