السلايدر الرئيسيشرق أوسط
جدارةُ النموذج العُمانيّ في كسر “الحواجز النفسيّة” مع تلّ أبيب ومسودّةُ “الامتحان الوجوديّ” بين لبنان وإسرائيل
جمال دملج
– بيروت – من جمال دملج – ربّما ليس من باب المبالغة القول إنّ نظرةً واحدةً بالعين المجرَّدة، وبتجرُّد، إلى ما آلت إليه الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط منذ وفاء البريطانيّين بـ “وعد بلفور” الشهير لدى الإعلان عن إقامة “دولة إسرائيل” فوق جزءٍ متكاملٍ من المساحة الجغرافيّة لـ “فلسطين التاريخيّة” في شهر أيّار (مايو) عام 1948 ولغاية يومنا الراهن، لا بدَّ من أن تكون كافيةً لإقناع الرائي بأنّ مراحل التخبُّط والفوضى والانقسام وعدم الاستقرار التي مرَّت بها الدول العربيّة على مدى سبعين عامًا من الزمان، لم يكن ليُقدَّر لها أن تصل إلى هذا الحدِّ المزري من الضياع المتوارَثِ أبًا عن جَدٍّ، والمفتوحِ باضطرادٍ على كافّة الاحتمالات الصعبة، لولا نزعة التهوُّر الاعتباطيّ التي استبدَّت بسلوكيّات العرب لدى تعاطيهم مع ظروف نشأة الدولة الوليدة، بدءًا من زمان “جيش الإنقاذ” بقيادة الراحل فوزي القاوقجي، مرورًا بزمان “الكفاح المسلَّح” بقيادة كافّة القوى الثوريّة المنضوية تحت لواء منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وانتهاءً بزمان “محور الممانَعة” الذي لا يزال الأمين العامّ لـ “حزب الله” السيّد حسن نصر الله يشكِّل المحرِّك الأساسيّ لديناميّته وديمومته، وهي السلوكيّات التي غالبًا ما كانت تغيب عنها آفاق النظرة الاستراتيجيّة الثاقبة في مجال السعي إلى تحقيق الحدّ الأدنى من التوازن أو تكافؤ الفرص مع الإسرائيليّين، سواءٌ في حالات الحروب الموعودة أم في حالات السلام المفقود، باستثناء سلوكيّات “محور المقاومة” في لبنان التي كانت قد شهدَت تغييراتٍ جذريّةً من حيث تصحيح إبرة بوصلتها الاستراتيجيّة بعد “حرب تمّوز” عام 2006، مقارنةً بما كان عليه الحال قبلها، لينتهي الأمر في المحصِّلة النهائيّة في ترسيخ ركائز معادلة “الردع الاستراتيجيّ” الراهنة التي أثبتت فاعليّتها بجدارةٍ طيلة الاثنتيْ عشرةَ سنةً الماضية، وللمرّة الأولى في تاريخ الصراع العربيّ – الإسرائيليّ.
الأمراض المزمِنة
وإذا كان اثنان لا يختلفان على أنّ الدول العربيّة التي قُدِّر لها أن تخوض حروبًا مباشِرةً كبرى مع الدولة العبريّة لم يُقدَّر لها أن تؤسِّس لأيِّ معادلةٍ مشابهةٍ لتلك القائمة حاليًّا في جنوب لبنان، سواءٌ عام 1967 أم عام 1973 أم عام 1982، فإنّ أكثر ما يُثير الانبهار، تعجُّبًا وليس إعجابًا، لدى استعراض مواقف هذه الدول حيال الحالة اللبنانيّة المتنامية باضطرادٍ منذ عام 2006، يتمثَّل في أنّ تقييم القادة العرب للمعادلة المذكورة ظلَّ محكومًا على الدوام بعوارض الارتياب الشديد، عوضًا عن أن يكون خاضعًا لعوامل الثقة في إمكانيّة التأسيس لركائز أمنٍ قوميٍّ عربيٍّ متينٍ يوازي في فاعليّته متانة الأمن القوميّ الإسرائيليّ، علمًا أنّ ثمّة أسبابًا عديدةً كانت ولا تزال تبرِّر لهؤلاء القادة مواصلة التعبير عن ارتيابهم في مواجهة ما يمكن وصفه بـ “الآتي الأعظم” من الضاحية الجنوبيّة لبيروت، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ الارتباط العضويّ القائم على أسسٍ عقيديّةٍ صلبةٍ ما بين “حزب الله” وما بين الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، معطوفًا على ما بات في حُكم المؤكَّد عن قيام الحزب باستعمال مصادر قوّته المستمَدّة أصلًا من تجاربه العسكريّة الناجحة في كلٍّ من لبنان وسوريا خدمةً لمصالح وأجندات طهران على الساحتين الإقليميّة والدوليّة، كان لا بدَّ له في نهاية المطاف من أن يؤدّي إلى إعادة تحريك عوارض الأمراض المزمنة ذات الصلة بغرائز الصراع السُنّيّ – الشيعيّ المتوارَث أبًا عن جَدٍّ منذ ما يزيد عن ألفٍ وأربعمئةِ عامٍ من الزمان، الأمر الذي لا يختلف اثنان في الموازاة على أنّه جعل من “الهشاشة” سِمةً مشترَكةً، ولو بدرجاتٍ متفاوتةٍ، لكلٍّ من الأمن القوميّ العربيّ والأمن القوميّ الإيرانيّ على حدٍّ سواء.
التجربة العُمانيّة
على هذا الأساس، وبالنظر إلى أنّ أيَّ محاولةٍ للقفز فوق البديهيّة القائلة بأنّ الإسرائيليّين لم يستثمروا في تلك الهشاشة إلى أقصى الحدود تُعتبَر بمثابةِ “ضحكٍ على الذقون”، ومع الأخذ في الاعتبار أنّ الدول العربيّة متّفقةٌ فيما بينها على أنّ السلام مع إسرائيل هو “خيارٌ استراتيجيٌّ” لا رجعةَ عنه طالما أنّه سيُفضي إلى “حلّ الدولتين” المنصوص عليه في مبادرة الراحل عبد الله بن عبد العزيز التي قدَّمها عندما كان وليًّا للعهد في الأسرة السعوديّة المالكة أثناء انعقاد قمّة الجامعة العربيّة في بيروت عام 2002، والتي حظيَت بتأييد الرئيس الإيرانيّ الراحل علي أكبر هاشمي رفسنجاني بحسب ما أعلنه بنفسه لموفدة “قناة العربيّة” إلى طهران الزميلة نجوى قاسم في مقابلةٍ حصريّةٍ بُثَّت بالصوت والصورة في شهر حزيران (يونيو) عام 2005، واستنادًا إلى منطق التاريخ الذي يُفترَض أن يُحتِّم على الراغبين في تحقيق السلام أن يتفاوضوا مع “أعدائهم” وليس مع “أصدقائهم” بغية التوصُّل إلى الهدف المنشود، يُصبح في الإمكان القول بكلِّ تجرُّدٍ، وبعيدًا عن مضامين العنتريّات الإعلاميّة الفارغة، إنّ الجرأة التي اتّسمت بها مراسم استقبال السلطان قابوس بن سعيد لرئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو الأسبوع الماضي في العاصمة العُمانيّة مسقط على هذا النحو من الوضوح البنّاء، وإنْ كان البعض قد أدرجَها في خانة “الاستفزازات الصارخة” لمشاعر الفلسطينيّين الذين لا يزالون يرزحون تحت وطأة الاحتلال في الداخل، ولكنّ ذلك لا يُلغي بالطبع فرضيّة أنّها جاءت في سياق محاولةٍ جادّةٍ لإعادة تصويب إبرة بوصلة العمليّة السلميّة نحو اتّجاهها الصحيح الرامي إلى توفير الأرضيّة المناسِبة لتحقيق “حلّ الدولتين”، ليس لأنّ السلطان قابوس كان قد استبق استقباله لنتنياهو باستقبال الرئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس، وإنّما لأنّ السياسات المتوازِنة التي انتهجتها السلطنة، سواءٌ حيال الارتصافات العربيّة – العربيّة التقليديّة أم حيال الأزمات الخليجيّة الداخليّة مع قطر أم حيال الأزمات الخليجيّة الخارجيّة مع إيران، باتت تؤهِّلها بجدارةٍ لكي تلعب دور الوسيط الأكثر نزاهةً في مجال فضّ النزاعات وتسويتها في مختلف دول الإقليم، ولا سيّما إذا ما أضفنا إلى ما تقدَّم أنّ ثمّة دعواتٍ رسميّةً روسيّةً كانت قد تكرَّرت كثيرًا في الآونة الأخيرة حول وجوب حثّ الإيرانيّين والإسرائيليّين على التفاوض وجهًا لوجهٍ من أجل تبديد هواجسهما المتبادَلة، بما من شأنه أن يُرسِّخ دعائم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، وهي الدعوات التي تزامَن إطلاقها مع توصُّل موسكو وطهران في شهر أيلول (سبتمبر) المنصرم إلى اتّفاقٍ ضمنيٍّ يقضي ببقاء القوّات الإيرانيّة وحلفائها على مسافةٍ لا تقلّ عن مئةِ كيلومترٍ من مرتفعات الجولان عند تخوم الحدود السوريّة – الإسرائيليّة.
الحالة اللبنانيّة
ولعلّ الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاحٍ هنا لا بدّ من أن تتمحور حول المدى الذي يمكن أن يصل إليه اللبنانيّون، شعبًا وجيشًا ومقاوَمةً، للاستفادة من كافّة الوقائع والحيثيّات والمستجدّات الآنفة الذكر، بما يضمن لهم تحصين ساحتهم الداخليّة في مواجهة التحدّيات والاحتمالات المتراوِحة لغاية الآن بين الأفضل والأسوأ، ولا سيّما إذا أعدنا إلى الذاكرة أنّ مسألة تحويل لبنان في سبعينيّات القرن العشرين من “جبهةِ احتياطٍ” يقتصر دورها على مجال تقديم الدعاية الإعلاميّة في إطار مجريات الصراع العربيّ – الإسرائيليّ إلى “بيئةٍ حاضنةٍ” لمختلف بنادق وقذائف التنظيمات والحركات والفصائل الثوريّة ذات الامتدادات الفلسطينيّة والسوريّة والعراقيّة والليبيّة والمصريّة، ومن ثمّ الإيرانيّة، غالبًا ما ظلَّت تقدِّم المبرِّر تلو الآخر لإحداث الانقسامات المتتالية في تركيبة المجتمع اللبنانيّ المبنيِّ أصلًا على محاصصاتٍ طائفيّةٍ تخاف بموجبها كلّ طائفةٍ من “غدْر” الطائفة الأخرى، الأمر الذي أدّى إلى إدخال البلد في أتون “الحرب الأهليّة” عام 1975، ومن ثمّ إلى إفساح المجال أمام بدء مرحلة “الوصاية السوريّة” على لبنان عام 1976، ومن ثمّ إلى القيام بـ “عمليّة الليطاني” الإسرائيليّة في الجنوب عام 1978، ومن ثمّ إلى الغزو الإسرائيليّ الأوسع نطاقًا والذي وصل إلى حدِّ احتلال بيروت في إطار ما اتُّفق على تسميته بـ “عمليّة سلامة الجليل” عام 1982، وهي الانقسامات التي راحت تتغذّى تِباعًا على “فضلات” المزايدات العربيّة – العربيّة في مجال التنافس الدعائيّ على “بُدعة” إقامة “التوازن الاستراتيجيّ” مع إسرائيل، علمًا أنّ اللبنانيّين كان في إمكانهم أن يتوحَّدوا وقتذاك، وبكلِّ سهولةٍ، تحت لواء الموقف الأكثر بلاغةً في التعبير عن واقعهم وعن واقع العرب المزري الذي جاء على لسان عميد الديبلوماسيّة اللبنانيّة الراحل غسان تويني عندما قال أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة في نيويورك قبل أربعين عامًا بالتمام والكمال ما حرفيّته: “إنّ أكثر ما يحتاج إليه اللبنانيّون في الوقت الحاليّ هو قرارٌ عربيٌّ مشتركٌ، إمّا بالدخول في حربٍ مع إسرائيل وإمّا بالإبقاء على حالة الهدنة معها، فإذا قرَّر العرب الدخول في الحرب، فإنّ لبنان أصبح ضالعًا بطبيعة الحال فيها، وإذا قرَّروا الإبقاء على الهدنة سارية المفعول، فحرامٌ عندئذٍ أن يدفع اللبنانيّون وحدهم ضريبة الحرب عن كلّ العرب”.
الامتحان الوجوديّ
هذا الكلام الهادف في الصميم، وإنْ كان الزمان العربيّ قد طواه تحت غُبار فوضى الحرب واللا حرب والسلم واللا سلم التي عاصرناها خلال العقود الأربعة الماضيّة، بدءًا من مرحلة “سلام الشُجعان” التي افتتحها الرئيس المصريّ الراحل أنور السادات لدى إلقاء خطابه التاريخيّ الشهير في مقرّ الكنيست الإسرائيليّ في القدس عام 1977 والتي أفضت إلى التوقيع على اتّفاقيّة “كامب ديفيد” للسلام بين المصريّين والإسرائيليّين في العام التالي، مرورًا بزيارة الرئيس اللبنانيّ المنتخَب الراحل الشيخ بشير الجميّل لـ “مستوطنة نهاريا” عام 1982 ورفضه التعهُّد لرئيس الوزراء الإسرائيليّ في حينه مناحيم بيغن بتوقيع اتّفاقيّةِ سلامٍ بين لبنان وإسرائيل قبل أن يتمكَّن من توحيد اللبنانيّين على مبدأ إبرام مثل هذه الاتّفاقيّة، ووصولًا إلى سلام “الأمر الواقع” الذي وقَّعه الرئيس الفلسطينيّ الراحل ياسر عرفات على أساس مرجعيّة “اتّفاقيّة أوسلو” عام 1993، ولكنّ العِبرة من وراء استحضاره في الوقت الحاليّ، تتمثَّل في وجوب التنويه بأنّ ذلك الزمان العربيّ، لم يكن قد شهد بعدُ على انبثاق فجر معادلة “الردع الاستراتيجيّ” التي تمكَّن “حزب الله” من إرساء ركائزها بجدارةٍ فائقةٍ في جنوب لبنان، وهو التنويه الذي يستوجب التنبيه في الموازاة إلى جملةٍ من حقائقَ راسخةٍ قُدِّر لها أن تتصدَّر واجهة الأحداث خلال الأيّام القليلة الماضية، وعلى رأسها أنّ تمكُّن اللاعب الروسيّ الأقوى في منطقة الشرق الأوسط من إقناع الإيرانيّين بإسقاط شعارهم الداعي إلى شطب إسرائيل من الوجود، ولو إلى حينٍ، معطوفًا على ما عبَّر عنه الرئيس اللبنانيّ العماد ميشال عون في خطابه الأخير أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة بخصوص الرغبة في تحويل لبنان إلى مركزٍ لأكاديميّةٍ دوليّةٍ تُعنى بنشر ثقافة الحوار والسلام بين مختلف الديانات والأعراق، لا بدَّ من أن تضع القيادة الإسرائيليّة من جهةٍ، وقيادة “حزب الله” من جهةٍ أخرى، أمام خياريْن اثنيْن لا ثالث لهما: إمّا الدخول في حربٍ حاسِمةٍ ينتصر فيها طرفٌ على الآخَر بشرفٍ وينهزم فيها طرفٌ أمام الآخَر بشرفٍ، وإمّا أن يستمرّ الطرفان في المراوحة بين الحرب واللا حرب في سياقٍ تكتيكيٍّ متواصلٍ لا يمتّ إلى أخلاقيّات النصر أو الهزيمة بأيِّ صلةٍ على الإطلاق… وحسبي أنّ الطرفيْن يمرّان للتوّ في أصعب امتحانٍ وجوديٍّ في تاريخهما منذ زمان نشأة كلٍّ منهما عام 1948 وعام 1985، وأنّ نتائج الامتحان ستظهَر تباعًا من خلال ما يُتوقَّع أن تؤول إليه الريادة العُمانيّة، عربيًّا وعِبريًّا وفارسيًّا، في مجال كسر الحواجز النفسيّة التي ما زالت تحول دون التوصُّل إلى تحقيق “سلام الشجعان” بشرفٍ هذه المرّة، عاجلًا أو آجلًا، وحتّى لو كره الكارهون… والخير دائمًا في الرهان على هذه الريادة في الحالة اللبنانيّة – الإسرائيليّة من وراء القصد.