أقلام يورابيا

الفقراء و اللغة

وليد العمري

وليد العمري

ان الشروع الشفوي في التعبير عن الذات، وعن الحواس والرغبات، والانجازات والخيبات هو عملية فردية جزئيا،لكنها في جزء اخر عملية جماعية،ولا نعني بذلك انها لاواعية في مجملها، فانتقاء الالفاظ الملائمة والمفضلة يعكس ظروف الحياة وضغوطاتها حتى رغم التغير الذي قد يطرء على المكان والزمان، اليس “الزوفري” في اللسان التونسي الدارج او المنتمي للطبقة العاملة بالساعد هو اكثر الذي يتوقع ان تصدر عنه العبارات التي يقال بأنها مخلة بالحياء او انه عنف لفظي؟
لقد كتب الرافعي في وحي قلمه ان مقالات السياسة الكاذبة كرسائل الحب الكاذب، تقرأ فيها معان لا تكتب، ويكون في عباراتها حياء، وفي ضمنها طلب ما يستحى منه، ولم يكتب الرافعي ان المنطق السياسي يقتضي ان يجيئ اقصر طريق بين نقطتين دائما خطا على شكل لولب، لذلك تجد الواحد يلقي السمع ساعات الى شخص رفيع الشأن يضرب بلسانه ارنبة انفه حين الحديث عن البلاد والعباد، فيكون في احسن الاحوال كمن يفسر الماء بالماء، ليس ذلك استنقاصا من قدر السامع او المتحدث، فقد كان فيلسوف التأويلية غادامير يصف هتلر حين يخطب ويرغي ويزبد بأنه اشبه بطفل يرتدي خوذة عسكرية، لكنك حين تدقق في اقوال السياسيين (وأعني هنا بالسياسيين الذين ينطقون بالنيابة عن جماعة ما بغض الطرف عن شكل التفويض ومشروعيته) تجد ان فيه بعض التماسك المنطقي رغم انهم يخوضون ماراطونات لغة دون ان يجف لهم حلق، وربما يكون السبب في هذا ان السياسيين يستخدمون قوالب جاهزة من العبارات، واحيانا من الفقرات، او ما يطلق عليه بلغة الخشب، على خلاف الكتاب الصادقين الذين يكتبون كمن يرتق جرحا غائرا، كلمة كلمة.
لهذا السبب تحديدا يصعب على المرء ان يفهم كيف يمكن للغة الخشب التي تتباكى بها النائحات المستأجرة ان تنفرد بالفضاء السياسي؟
ان ما سنبينه هنا هو انه كما لا يمكن مطلقا الفصل بين النظام الاقتصادي وبنية المجتمع، فانه لا يمكن ايضا الفصل بين نظام اللغة وتلك البنية، فالاقصاء الاجتماعي مثلا لا يقف عند الحرمان من الحق في العمل والحق في الملكية، بل تتجاوز ذلك الى التجريد من الحق في الكلمة و انتاج المعنى، فاللغة في المجتمع تماثل الاقتصاد من حيث انها نظام منتج للمعنى، وايضا منتج للقيمة التي لا يصبح لها قيمة الا بتلبيتها لشرط التداول والتبادل، ولقد كان مؤسس الألسنية دو سوسير يقارن العلاقة بين العمل والأجر بالعلاقة بين الدالة والمدلول من حيث اعتباطية الاقتران ولاتماثل طبيعتهما.
لقد استحضر الفيلسوف التونسي سليم دولة في مداراته و جراحاته تعريفا حرجا ودقيقا للقمع وهو ان تقمع غيرك بالكلام حتى تتصاغر اليه نفسه، فغاية القمع ومصادرة الحق في الكلمة انما هي التصاغر الذي يحصل في نفس المقموع حتى لا يعود قادرا عن النطق، فالتواصل لغويا ليس مجرد نقل واستقبال للافكار والمعلومات، بل هو ايضا تأكيد على المقام الاجتماعي للمتكلم وموقعه في سلم التراتبيات الاجتماعي، ولكن ايضا ليست كل الألفاظ التي تنقال تفهم بالطريقة نفسها ويكون لها نفس الوقع و الموقعة حين اختلاف السياقات التي تلفظ فيها، فالسياق الاجتماعي لا يقوم فقط بحصر نوعية الالفاظ والتعابير المسموح بها بل وايضا حتى كيفية ترتيب الجمل كما سنرى عند بازيل برنشطاين . فاللغة التي نتكلمها بشكل عفوي ليست ملكة طبيعية او طبيعة ثانية يحمل الواحد عليها نفسه ويتكلفها حتى تصير له سجية،بل هي ساحة للوغى وفضاء ملتبس لممارسة اقسى اشكال الهيمنة.
ولنضرب مثالا عن الاستخدام اليومي للغة في تونس،و تحديدا استخدام حرف القاف التي لا تنطق بذات الطريقة في الاوساط قليلة الحضوة بينما النطق الذي يعرف بانه اكثر لياقة في الاوساط الراقية هو نطقها قاف كما هي، وفي حالات كثيرة يتم توظيف نطق هذا الحرف في الاستقطاب السياسي للفئات المهمشة لأنها غالبا ما تكون اللهجة الدارجة عندهم، واحيان اخرى يتم توظيف اللهجة التي تتضمنه للسخرية من اصحابها وازدرائهم كما في مسرحية تونسية معروفة عنوانها الماريشال عمار، بامكان اي كان ان يلاحظ بدون تكلف القيام بمسح احصائي ان الاناث المنحدرات من الاوساط المهيمن عليها هن اكثر من ينزعن الى تغيير لهجتهن، ونطق حرف القاف كما هو معروف في الاوساط الراقية، اما الذكور فعدد الذين يغيرون نطقهم لهذا الحرف اقل كثيرا، وهذا لأن النساء يقبلون بشكل اسهل قواعد الترقي الاجتماعي و يتحسسون اكثر انعدام الامن اللساني الذي ينتج عند الشعور بأن هناك لهجة وطريقة نطق تحضى بهيبة وجمالية اكثر بما ان لهجة سكان الحاضرة تعتبر اسمى من لهجة البدويين و المنحدرين من الأرياف، وذلك لقبول النساء الغير واعي او الواعي بأشكال الهيمنة،،بينما يصبح التخلي عن اللهجة عند الرجال اشد صعوبة لأنهم لا يستشعرون انعدام الأمن اللساني، وليست هذه الظاهرة عامة سارية المفعول في كل الدول، بل هي ميزة الذين يتوقون للتمدن،و يرون في المدينة افضليتها على الريف.
وليست قضية اللهجة او اختلاف في شكل الحروف ونطقها هي الوحيدة التي يمكن ان تشكل تصنيفا اجتماعيا معينا، بل حتى اختيار الالفاظ الملائمة في المقامات الملائمة يمكن ان يتسبب بذلك، فالكثير من التجارب الاجتماعية تتطلب عبارات مخصوصة للحديث عنها، لأن المباشاراتية تعبر في كثير من الاحيان قلة ادب،فالالتفافية تظهر مثلا حين وصف طفل قليل الادب على انه “مفعم بالنشاط”، او وصف شخص شره وموغل في الطمع بأن عيناه كبيرتان كما بين ذلك ريتشارد هوغار.
ان زلات اللسان والتلفظ اللاارادي بالعبارات ذات الفحوى الجنسي تحدث اكثر عند المنتمين للشرائح الفقير ة، وهناك حالات معروفة وقعت فيها زلات لسان اثناء القيام بمقابلة مع احدى القنوات التلفزية، وهذه الزلات يندر ان تحدث عند غيرهم،و لسنا هنا ننعت الفقراء بالفحش اللغوي،لأن تصنيف هذه العبارات فحشا لا يمكن ان يصدر عبر تبني المعايير المهيمنة، لكننا سنذهب الى ان افراد هذه الشرائح متعودون في محادثاتهم اليومية بالمباشراتية والعفوية التي يضطرون الى التخلي عنها في المحادثات الرسمية و هذا يضطرهم الى الحذر اكثر في استعمال الالفاظ و ترتيب الافكار والعبارات حين اجراء حوار مع شخص من شريحة اخرى.
لقد اشار بازيل برنشطاين في دراسة له على انخفاض المهارات اللغوية عند ابناء االاباء المنتمين للطبقة الكادحة رغم ارتفاع ذكائهم الغير لغوي مقارنة بابناء المنتمين الى الطبقة الوسطى، ومرد ذلك ان الوسط الذي ينشأ فيه الطفل يلعب دورا ثقيلا على قدراته التواصلية، وتعكس هذه القدرات بدورها استعداداته الذهنية والاجتماعية والعاطفية.
اذ ان هذا الوسط يتميز بندرة فرص المبادرة المتاحة للافراد وبضيق ومحدودية العلاقات الاجتماعية الممكنة وانغلاقها شبه الكلي على غير اصحاب المهن اليدوية مما يحرم الاطفال الناشئين في تلك الاوساط من كثير من فرص التحفيز الفكري. وحتى نستطيع فهم هذه البنية الاجتماعية المنظمة للاتكافؤ فرص اكتساب اللغة لا بد من توضيح ما يسميهما برنشطاين بالشيفرة اللسانية و نظام الادوار الذي يسمح بتوظيفها.
ينبغي التسليم بان السياقات المختلفة تتطلب معجما مختلفا وتراكيبا مختلفة،فليست عملية التواصل في جبهات القتال تشبه تلك التي تكون حاضرة اثناء عشاء ديبلوماسي، وبالمثل فان مخاطبة كهل لطفل صغير تستدعي معجما بسيطا، ان تعلم اللغة عند الطفل يقترن تلازميا بتكيفه مع الوضعيات الاجتماعية المختلفة التي تسمح باستخدام تلك اللغة، وابعد من ذلك،فان الفرد يتعرف على مقامه الاجتماعي من خلال سيرورة التواصل اللغوي، ان الشيفرة اللسانية هي التي تحيل الى القاعدة التي تنظم اختيار وترتيب الالفاظ والعبارات اثناء عملية التواصل، وبشكل عام هناك شيفرتان للتواصل،شيفرة محدودة، وتستخدم هذه الشيفرة عبارات قليلة وتعابير محدودة تجعل من السهل التكهن بما سيقوله المتكلم، ذلك انها تستخدم غالبا للتعبير عن وضعيات متكررة ويفضل الافراد استخدام هذه الشيفرة للتعبير عن المجموعة،لا عن الذات، ونعني مثلا الشيفرة التي تستخدم في السجن،الجيش،مجموعة الاتراب،الاشخاص المتزوجون…
لكن هناك ايضا شيفرة المتطورة وتتطلب اكثر مرونة معجمية و تركيبية مما يجعل من الصعب التكهن بما سيقوله مستخدمها لوفرة الامكانيات التي تسمح بها، وتستخدم هذه الشيفرة للتعبير عن الذات، الاذواق والخيارات. فهذه الشيفرة تتطلب مجهودا اضافيا لانتقاء الالفاظ وترتيبها والربط بين الافكار بسلاسة مثلا كما يحدث اثناء القيام بالقاء خطاب.
ان الاشخاص الذين اعتادوا استخدام الشيفرة المحدودة يجدون صعوبة بالغة في التعبير باستخدام الشيفرة المتطورة، وذلك لان نظام الأدوار الاجتماعية يحدد الشيفرة اللسانية المستخدمة في التواصل، فكلما كان نظام الأدوار مغلقا كلما صغر الحقل المعجمي اللازم للتواصل، وكلما كان نظام الادوار مفتوحا كلما كان الافراد اكثر حرية في انتاج المعنى عبر استخدام معجم ارحب. واذا ما يجعل من الاشخاص النبهاء المنحدرين من الطبقات الكادحة يجدون سهولة اكثر في استخدام الشيفرة المتطورة اثناء الكتابة لكنهم لا يستطيعون توظيفها، أو بالكاد، في التخاطب،ذلك لانهم استأنسوا الى استخدام الشيفرة المنحصرة، ولذلك فهم يستنزفون جهدا ووقتا كبيرا في توظيف الشيفرة المتطورة.
ان برنشطاين يذهب الى انه اذا كانت المدرسة تعتبر عند المنحدرين من الطبقة الوسطى تطويرا للذات، فهي للمنحدرين من الطبقات الكادحة بناء لذات اخرى واكتساب للغة غير لغتهم الام،اي ان الامر بالنسبة لهم اشد صعوبة.
يوفر لنا بازيل برنشطاين اطارا مثمرا للتفكير في علاقة اكتساب اللغة واستخدامها بالاصل الاجتماعي والانتماء الطبقي،لكن لا ينبغي ان تستخدم مفاهيمه بشكل متعسف ومتحجر،كأن نقيم تعارضا جذريا بين الشيفرتين اللسانيتين ونغفل ما يمكن ان يجيء بينهما من تدرجية قد تنتج حتى عن انهيار قسط كبير من الطبقة الوسطى لتلتحق بمصاف الطبقة الكادحة، مما يجعل من الصعب، وهو ليس مستحيلا، تحديد ملامح الوسط الذي ينشأ فيه الافراد ويستسقون منه السنتهم ولكنه من المهم ايضا الانتباه الى ان اللغة الرسمية تلعب دورا كبيرا في الاستبعاد، استبعاد كل من لا يستخدمها بما تقتضيه من التفافية وتلبيس ووصمه بالدونية. لقد صدق هنود الغاياكي حين قالوا بأن للبيض لسانا متشعبا.

*كاتب من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق