أقلام مختارة

في عصرٍ يطردُ عصراً : ماذا تفعل مدينةٌ تتّكىء على وردة

أدونيس

أدونيس

(مونتيري ــ مكسيكو20 ــ 27 أكتوبر 2018)

زوكالو ــ

الغبارُ يشرب ماءَ الرّموز، والملحُ يكاد أن يغيِّر لونَه وطعمَه.

وها هو كوكبُ الزّهرة

يكاد أن تعثر قدماه بخرائط الضّوء.

العَبْ، أيّها الطّفلُ المكسيكيّ بورق الطبيعة وحبرها. لكن لا تنسَ أطفال العالم الذين

يترمّدون، كلّ يوم، لكي تعرف كيف تتذكّر النار وحجرَ الشّمس.

وعندما ترى سنجاباً يفرّ من البشر في عربةٍ تعرجُ، وطاووساً يلبس الحِدادَ وفاءً

لأقحوانِ المَوْتى، لا تتوقّفْ عن اللعب، ولْتكُنِ الشّمسُ فيه شريكةً ورفيقة.

ولْتَبْقَ غابةُ الأساطير مدرستكَ الأولى.

***

زوكالو ــ

مَن قال، مَن يقولُ الخطواتُ تصنع الطُّرُقَ والسّاحات؟

يكفي أن يضعَ أحدُنا قدَمَيه في أيّ بلدٍ لكي يرى العكس :

الطُّرُقُ والسّاحاتُ هي التي تصنع الخطوات.

في الطّريق إلى المكسيكِ، احتَدَمَتْ فجأةً هواجسي. قلتُ في نفسي:

ربّما تَعِبَتِ الشّمسُ منّا.

ربّما لهذا لم تعُدْ تكلِّمُنا إلاّ بلغةٍ سبقتْنا كثيراً.

أمّا القمَرُ فقد أصبحَ ضنيناً:

لم نعدْ نقدرُ أن نمدَّ أيدينا إلى جيوبهِ

لكي نسرقَ ولو حُلماً.

هل تعمل الشمسُ والقمَرُ إذاً على نقلنا إلى بلادٍ أخرى؟

***

« جفّت الينابيع» ؟ ربّما

لكنّ المطر لا يزال يأتي ويمضي. هكذا على مدخل المُتحف الأنتروبولوجيّ في

مكسيكو، مدّت لي يدٌ من جهةِ مايا كأسَ ماء يتحدّرُ من غيومها التي تتحدّرُ من

ذاكرتها. وكان في الماء ما يجعل الماضيَ حاضِراً، والميِّتَ حيّاً.

شكراً مايا ليدكِ هذه التي ترى أيضاً ما تلمسُه. شكراً لهذه الكأس التي هي مُصَغَّرُ

اللانهاية في موجِ التّكوين.

وليست اللانهايةُ في العين بحدّ ذاتها، يقول مُعجَمُ هذا المتحف، وإنّما هو في البصر.

والبصَرُ ليس في العين وحدها، وإنّما هو كذلك في البصيرة.

يقول هذا المعجم أيضاً:

الليلُ في هذا العصر عاكِفٌ على دراسة مستقبل العين.

ما هذا المستقبلُ أيّتها اللحظةُ التي يحملها بين جناحَيه طاووسُ الزّخرفة؟

***

عندما كنت أتأمّلُ بعضَ التّماثيل ــ مثلاً تمثال « أمير الزّهر سوشيبيللي

Xochipilli وتمثال ربّة الأرض والخصوبة والأمومة الآزتيكية تلازولتيكولت Tlazoltecolt، أغراني التأمُّلُ بالقول إنّ الفنّ القديم في المكسيك تجسيدٌ للطّاقة الخلاّقة الحيّة. كأنّ هذه الأرض المكسيكية كانت تؤمن، على العكس من الأرض المتوسّطيّة، بأنّ الفنّ الذي يكرّر نفسه، ولا يتجدّد أو لا يتخطّى ما أنجزَه، إنّما هو إهانةٌ للآلهة. التّمثال الذي لا يكون في مستوى الكينونة الإلهيّة، يُعَدّ شكلاً من إهانة هذه الكينونة. الفنّ كالألوهة لا يتجاوز الحياةَ والواقع وحدهما، وإنّما يتجاوز الموتَ نفسَه.

في هذا الأفق رأيت في المُتحَف إلى جانب المُنجَزات الإبداعية الفنّيّة المتنوِّعة طاقةً داخليّة على مَحو الواقع، وعلى خلق عالَمٍ آخرَ يتجاوزه. ننتقل في هذا العالم على درَج تاريخٍ تمتزجُ فيه المُخَيِّلة بالمادّة، والأرضُ بالسّماء.

إنّها أبديّةُ المعنى تتنوّع وتتجدّد في زمنيّة الصورة.

***

لا أعرف مدينةً مليئةً بالمدن كمثل مكسيكو. والحمدُ لِلُطْف الشّجر فيها، فهو يموِّه الفراغ وصحراءه، خصوصاً عندما تصعد سلّماً حجريّاً بمئةٍ وأربعٍ وثمانين درجة لتُكمِل رؤيةَ القامة العالية الضّخمة لكنيسة الغوادولوب، ذلك المكان الذي لا مكان فيه إلاّ للتّاريخ ــ أعني إلاّ لنفسه.

ماذا يعني مثلُ هذا المكان؟

أن تكون في المكسيك هو أن ترى ليلَ العالم كيف لبس الضّوءَ لحظةً لحظةً، وخطوةً خطوةً، وكيف آلَف بين حجرٍ يرضع طاقة الشمس، وغيمٍ تُرضعه طاقةُ الخلق. ما عدا ذلك، لا مكانَ إلاّ للمُشتَرَك المُبتَذَل الذي يخرج في مصانع العولمة ومناجمها، كما نرى في تلك البلدان التي تُثقِل كاهِلَ كوكبنا الأرضيّ.

***

زوكالو، ــ

أطفالٌ، جنودٌ وعمّالٌ وقادةٌ لمستقبل أرضٍ كانت تزرع النّجومَ في حقولها. وكانت عندما تتعبُ ترتاح في أحضان مخيِّلةٍ كأنّها الرّحِمُ ــ الأمّ.

***

المكسيك ــ سماء صاحيةٌ. صَحْوٌ مليءٌ بالغيوم ــ الآتية، خصوصاً من الشّمال الأميركيّ. والحصادُ لا يزال ، تقريباً، كما كان.

لا يزال هو هو، تقريباً: حصادَ النّجوم.

***

كلاّ، لم يعُد الإنسانُ مناراً أمام الإنسان، تقول الأرضُ المكسيكيّة. وتسأل بمرارة:

لماذا يتحوّل الإنسان، اليوم، إلى جدارٍ أمام الإنسان؟

***

مكسيكو ــ هل في حيِّ تلابان Tlapan الذي يرفع راية الشّباب

ما يُنبِىء بالقدرة على الجواب؟

أم أنّ هذه القدرةَ كامنةٌ في الحيِّ الآخر الذي يرفع رايةَ التّرَف والرّفاهية كويووآكان Coyoacan ؟

***

سوشميلكو ( حدائق الآزتيك ) :

الماءُ أسود

غير أنّ البيتَ قائمٌ بين يدَي الطّبيعة، حقّاً.

وكلُّ شيء في مكسيكو يبدو في آنٍ، أنّه هو وليس هو. أنّه

ذاتهُ وغيره.

والآلةُ التي ابتُكِرَت لتسريع الزّمن هي نفسها التي تجعله، اليومَ

ثقيلاً، بطيئاً، بطيئاً.

في طريق العودة من زيارة هذه الحدائق، مروراً بشارع الريفورما

(Reforma):

تماثيل ملوَّنةٌ لحيوانات مما وراء الواقع، تقصّ سيرة الواقع.

إنه الفنّ يمحو الفروقات،

إنّه الفنّ يثبِّت الفروقات.

ماذا تفعل مدينةٌ تتّكىء على وردةٍ

في عصرٍ يطردُ عصراً؟

في حركةٍ بين التقدُّم

تلبّي الحاجة،

غير أنّها تُطفىء نار الرّغبات.

***

أوه مايا ! ما هذا العالم الذي يحكمك الآن؟

لا يُصغي في مسيرته إلاّ إلى وقعِ خطواته. هكذا يبدو أنّه يسير

لا يسير إلاّ واثِقاً.

لا يعترف أبداً أنّه يتراجع أو ينهزم.

كيف يمكنه، إذاً، أن يتقدّم؟

***

عالَمٌ يقوده طُغاةٌ يقدّمون هم أنفسهم على ضعفهم

وفشلهم البراهينَ التي لا تُدحَضُ، أبداً.

مع ذلك يُنكرونها بطغيانهم ذاته.

***

وقولي أيّتها الثّورة :

هل تعرفين سرّ ذلك الحبّ الأعمى

بين الجناح والجنّة؟ وبين الجناح والفضاء؟

الحياة اللندنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق