مصطفى زين
استطاعت الأحزاب الشعبوية الأوروبية اختراق حكومات 11 بلداً على امتداد القارة، وبدأت تشكل تهديداً حقيقياً لـ «الإستبليشمانت» في 31 بلداً، فيما كانت مجرد ظاهرة هامشية لا يعيرها أحد انتباهاً، وتثير الضحك بسلوكها وطروحاتها المتطرفة التي تشبه طروحات دونالد ترامب في عدائه للثقافة والمثقفين، واحتقاره الصحافة وما تمثله من رأي عام. لكن ماالشعبوية ؟ ولماذا تزدهر؟
في تحديد هذه الظاهرة خلصت دراسة أجرتها صحيفة «ذي غارديان» البريطانية إلى أنها نتيجة صراع بين الطبقات «العادية» والنخب الفاسدة التي تستخدم القوانين والمؤسسات لمصلحتها، رافضة اي تغيير فيها إلا بما يتناسب مع هذه المصالح، وقد تجنح الشعبوية إلى اليمين أو اليسار، لكنها شوفينية تثير مشاعر الجماهير بشعارات قومية يمينية في معظم الأحيان، وتستغل الفقر وتراجع الإقتصاد والجمود والأزمات الإجتماعية وتلصق أسبابها بالغير، وتتخذ المهاجرين واللاجئين حجة قوية لإثارة المشاعر القومية والوطنية، كما تستغل الخلافات التاريخية وتلصق تهمة الإرهاب بالمسلمين لإثارة مشاعر الكراهية لدى جمهور يرى في الآخر عدواً متخلفاً ينافسه في عمله وفي لقمة عيشه، وهي لا تمتلك أيديولوجيا معينة، بل تتخذ الأحداث الجارية منطلقاً لتعميم نظرتها إلى الأمور، فترامب (مرة أخرى) لا ينتمي إلى اي مدرسة أيديولوجية بخلاف عدد من المحيطين به مثل نائبه مايكل بنس الذي يرى الخير كل الخير في الصهيونية المسيحية ويعمل بوصاياها المنتشرة في الولايات المتحدة ،أو مثل مستشاره الاستراتيجي السابق ستيف بانون الذي غادر منصبه وأنشأ مؤسسة في بروكسيل لمساعدة الأحزاب الشعبوية الأوروبية في الوصول إلى السلطة، خصوصاً إلى البرلمان الأوروبي للسيطرة عليه وتفكيك الإتحاد من الداخل، ولقيت دعوته ترحيباً كبيراً في أوساط اليمين، فيما تحاول المؤسسات الرسمية محاربته قانونياً لمنعه من ممارسة نشاطه باعتباره تدخلاً في الشؤون الداخلية للدول.
ولربما كانت التجربة البريطانية في الاستفتاء على الخروج من الإتحاد الأوروبي عام 2016 خير مؤشر إلى نزوع القارة نحو الأحزاب اليمينية الشعبوية والشوفينية القومية، وكذلك وصول مارين لوبن في فرنسا إلى المنافسة على منصب الرئاسة وحصولها على 33 في المئة من الأصوات.
يعلمنا تاريخ القارة القريب أن الأحزاب الشعبوية تنمو خلال الأزمات الإجتماعية والسياسية والحروب، فالحزب النازي، على سبيل المثال، اكتسح ألمانيا في ثلاثينات القرن الماضي بسبب الأزمة الناجمة عن الشروط القاسية لمعاهدة فرساي التي فرضت عقوبات على برلين بعد هزيمتها فاستغل النازيون السخط العام للوصول إلى الحكم. كما استطاعت الشعبوية اليسارية الوصول إلى السلطة في روسيا بعد ثورة عام 1917 بسبب النتائج الكارثية للحرب وغرق البلاد في الفقر،وأسس الحزب الشيوعي الإمبراطورية السوفياتية مقابل الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، واستمر النزاع بين الطرفين طوال عشرات السنين إلى أن وضعت الإمبراطورية الأميركية حداً لتمدد الشيوعية في القارة، فنمت على أنقضها أحزاب شعبوية في كل الكتلة الأوروبية الشرقية وبدأت تتمدد إلى غرب القارة. فهل يمكن مقارنة أحداث اليوم بهذا الماضي؟
قد يكون من باب المبالغة القول إن الأحزاب الشعبوية تتجه إلى خوض حروب جديدة في أوروبا، لكن كل الدلائل تشير إلى أنها نتيجة الأزمات التي تعيشها القارة. ولا شك في أن صعود نجم فلاديمير بوتين في روسيا والأحزاب اليمينية في دول الإتحاد السوفياتي السابق، خصوصاً في بولندا وهنغاريا، وحتى في غربها مثلما هو الحال في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا ستنتج عنه تغييرات كبيرة على مستوى التوجهات الديموقراطية والعلاقات بين الدول قد تؤجج الصراعات الإقليمية.
ما لم تذكره دراسة «ذي غارديان» أن الحروب الأوروبية عمت القارات بسبب المنافسة على المستعمرات، وأن هذه المنافسة محتدمة الآن في الشرق الأوسط، وأن أوروبا صدرت الحروب إلى هذه المنطقة البائسة التي يتقاتل أبناؤها نيابة عن المتنافسين.
الشعبوية تغزو أوروبا الغربية والشرقية والأزمات تتفاقم في القارة القديمة واحروب تشتعل في منطقتنا.
الحياة اللندنية