السلايدر الرئيسيتحقيقات
“يهود المغرب”… تعايش ووظائف ووزارات وحقوق سياسية ورفض للانتماء للمشروع الصهيوني
فاطمة الزهراء كريم الله
ـ الرباط ـ من فاطمة الزهراء كريم الله ـ يتكرر الحديث من حين لآخر عن اليهود المغاربة على اعتبار أن المغرب كان إلى حدود أواسط القرن الماضي من البلدان التي يتواجد بها أكبر عدد من معتنقي الديانة اليهودية، والذين كان لهم حضور بارز في مختلف المجالات خاصة الثقافة والفن والاقتصاد والسياسة.
ولطالما اعتبر المغرب من البلدان التي تقدم نموذجا للتعايش بين مختلف الثقافات والأديان، خاصة بين اليهود والمسلمين الذين عاشوا جنبا إلى جنب على مدى قرون.
وجود اليهود بالمغرب منذ قرون
وقبل الحديث عن النموذج المغربي، لابد من الإشارة إلى السياق التاريخي لدخول اليهود إلى المغرب، بالعودة إلى الدراسات التاريخية، نجد أن الوجود اليهودي بالمغرب وجود قديم جدًّا، إذ ظهر مع التجار اليهود الذين وصلوا مع الفينيقيين في القرن التاسع قبل الميلاد، وفي أعقاب خراب الهيكل الأول في عام 586 ق.م.، ثم القرن الثالث قبل الميلاد بشكل عام، حيث تمكنوا من الدخول إلى مناطق الأمازيغ في الجنوب من خلال التأثير المباشر بين الجماعات اليهودية والقبائل الأمازيغية، واحترفوا كل ركائز الحياة الاقتصادية من رعي وصناعة، علاوة على التجارة التي حققوا منها ثروات طائلة، خاصة تجارة الرفاهيات، وكانت أكبر هجرة لليهود إلى المغرب الأقصى مع ظهور علامات سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس سنة 1492، والتهجير القسري الذي تعرض له المسلمون واليهود على يد الإسبان، وهروبهم من محاكم التفتيش، إلى أن تجاوزت الجالية اليهودية في المغرب في ذلك الوقت 100 ألف، فيما أتى نحو 25 إلى 30 ألفًا من إسبانيا والبرتغال، ولا يزال كثير من هؤلاء يحملون أسماء أسرية لمدن إسبانية تعود أصولهم إليها، والملاحظ أن يهود جبل طارق وكذلك معظم يهود مدينتي سبتة ومليلية، هم حفدة لأولئك الذين طردوا من إسبانيا. واستقر بعضهم في جنوب وشمال إيطاليا وذهبوا لجبل طارق بعد انتصار البريطانيين عام 1704، فيما أتى بعضهم من مدينة تطوان. ثم جاءوا من جبل طارق مرة أخرى إلى المغرب منذ عام 1840 وما تلاه.
ينقسم المغاربة اليهود إلى فئتين، فئة “المغوراشيم” (ومعناها بالعبرية المطارد) وهم يهود الأندلس، وقد نزع “المغوراشيم” في ذلك الوقت إلى الانعزال وامتلاك معابد منفصلة في المدن الكبرى كالدار البيضاء وفاس ومكناس والرباط والصويرة، بل والعيش في أحياء منعزلة لا زالت تسمى لحد الأن بأحياء “الملاّح”. وفئة “الطشابيم” وهم اليهود الذين سكنوا المغرب قبل الفتح العربي الإسلامي، حيث ترجع أصول الكثير منهم إلى الأمازيغ الذين تحولوا إلى اليهودية والتصقوا بديانتهم أكثر من المسيحيين البربر.
عاش اليهود المغاربة، حياة متواضعة، و امتهنوا الحرف التقليدية المختلفة، وارتبطوا بالتجارة والمال والأعمال. وتؤكد الدراسات أن السلاطين الوطاسيين والسعديين والعلويين الذين تعاقبوا على حكم المغرب، على امتداد القرون الخمسة الماضية، اعتمدوا في مسائلهم المالية والتجارية والاستشارية على الخبرات اليهودية.
قيام دولة الاحتلال والهجرة بمساعدة الفرنسي
وإلى حدود نكبة فلسطين سنة 1948 وقيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، وانتهاء عهد الحماية الفرنسية والإسبانية في المغرب عام 1956، ووقوع نكسة 1967، هاجر الكثير من يهود المغرب إلى إسرائيل، فيما فضل بعضهم الاستقرار في فرنسا، وهاجرت فئة إلى كندا، وأخرى أقل إلى إسبانيا، وهو ما جعل عدد الباقين منهم يتراجع إلى حوالي 20 ألف نسمة بداية ثمانينات القرن العشرين، وهم اليوم أقل من ستة آلاف نسمة (المقيمون بشكل دائم). ومع ذلك فان يهود المغرب ما زالوا يشكلون أكبر تجمع يهودي مقارنة مع البلدان العربية.
وكانت هجرة المغاربة اليهود إلى إسرائيل، بدعم من المستعمر الفرنسي على فترات، الفترة الأولى ما بين 1948 و1956، في ذلك الوقت كانت فرنسا هي الحاكمة، تعطي جميع التسهيلات، ومن مصلحتها أن تجد حلًّا لجزء من المجتمع اليهودي المغربي الذي كان يعيش في ظروف صعبة.
وفي سنة 1956، جاء استقلال المغرب، ومنح الملك الراحل محمد الخامس حقوقًا سياسية لليهود، وفعلًا عين وزيرًا يهوديًّا هو بن زاكين، في الحكومة الأولى والثانية، ووقف الهجرة، حيث توقفت عملية تسهيل إعطاء الجوازات لليهود المغاربة ولكنها لم تمنع كليًّا. لكن، وبعد وفاة محمد الخامس، تغيرت الأمور، إذ كان هنالك مكتب مخصص لـجوازات سفر اليهود وسقطت مقاومة الوطنيين اليهود لمسألة التهجير، بعدما أصبح القانون يسهل عملية التهجير بتسهيل إعطاء الجوازات ليهود المغرب، وهكذا بلغ عدد يهود المغرب في إسرائيل حوالي 400 ألف سنة 1973.
وكان قد قال الملك الراحل الحسن الثاني: “عندما يغادر يهودي مغربي بلده، نفقد مقيما، ولكننا نربح سفيرا”.
في هذا الصدد قال جمال بن دحمان أستاذ جامعي متخصص في تحليل الخطاب بجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء، في حديث مع صحيفة “”: “بالعودة إلى التاريخ المغربي سنجد أن المغاربة تعايشوا مع كل مكونات هذه الأمة، ولنقرأ ما كتبه حاييم الزعفراني عن يهود المنطقة وعن علاقتهم بباقي مكونات الأمة، لذلك نستطيع القول أنه لا مشكلة مع اليهود واليهودية لكن المشكل الأكبر مع اليهودي الصهيوني الذي يستغل الانتماء لخدمة مشاريع أجمعت الأمة على رفضها، ففلسطين ليست مجرد جغرافيا وإنما أصل ما يوحد ويجمع أمة، و المغاربة باعتبارهم جزءا من هذه الأمة لا يمكنهم مطلقا القبول بمن يخدم هذا المشروع ..أو ينخرط فيه”.
وأضاف بن دحمان، “ينبغي التنبيه او لا إلى ضرورة التمييز بين اليهودية والصهيونية، ومن خلالهما بين اليهودي والصهيوني، الأولى انتماء ديني والثانية حركة عنصرية استيطانية توسعية واحتلالية، بناء على ذلك نميز بين اليهودي المغربي الذي كان دوما جزءا من النسيج المغربي بمواقفه واقتناعانه ووطنينه، وبين اليهودي المغربي الذي هو جزء من الحركة الصهيونية التي اغتصبت حقوقا لأمة،وشكل جزءا من مشروع استيطاني توسعي”.
اتسمت الهوية اليهودية المغربية بتدينها بل وتشددها في الالتزام الحرفي بالدين اليهودي ومعتقدات التوراة والتلمود، ولعلى الكثير من الدراسات التي ركزت على ظاهرة أولياء وقديسي اليهود المغاربة حيث أحصت وجود 652 وليا ضمنهم 126 مشتركا بين المسلمين واليهود و15 وليا مسلما يقدسه اليهود و90 وليا يهوديا عند المسلمين، ويتنازعون في 36 وليا كل ينسبه إليه.
صحيح اليوم ليس هناك أرقام دقيقة حول عدد اليهود المغاربة الذين فضلوا الاستقرار بالمغرب على الهجرة إلى أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو إلى إسرائيل، إلا أن بعض الجمعيات الناشطة في مجال حماية التراث اليهودي المغربي، تؤكد على وجود ما يزيد عن 3000 نسمة في الدار البيضاء وحدها.
حتى الذين هاجروا من المغرب إلا أن هناك العشرات من المزارات الدينية التي هي بمثابة حج سنوي يحرص المغاربة اليهود على زيارتها قادمين من كل البقاع. فمثلا في مدينة تارودانت جنوب المغرب، يوجد مزار ديني يستقبل سنويا الآلاف من اليهود القادمين من إسرائيل ومن أوروبا، يجتمعون هناك لإحياء “هيلولة ربي دافيد بن بروخ”، وهو طقس ديني يحرص اليهود المغاربة على حضوره للتبرك بـ”الولي الصالح”، و”صلة الرحم مع أقاربهم وبلدهم الأصلي.
هيرفي ليفي: عائلتي لا تفكر في مغادرة المغرب
هيرفي ليفي، عضو الطائفة اليهودية في المغرب، ينحدر من مدينة اكادير جنوبا، يشتغل في قطاع السياحة، قال: إن “عائلته لم تفكر ولا نفكر في مغادرة بلدنا المغرب، فهنا نعيش في تعايش وتآخ ولا نشعر بأي تمييز، نعيش في احترام تام متبادل مع إخوتنا المغاربة المسلمين”.
وأضاف ليفي، في تصريح لصحيفة “” أن النموذج المغربي في تعامله مع الطائفة اليهودية قل نظيره، فالمغرب يوفر لليهود فضاء من التعايش مقوم بالاحتفال بمناسباتنا الدينية بكل حرية حتى إذا لاحظتم أن “ميمونة” هو طقس متجذر في الثقافة اليهودية يحتفل به المسلمين أيضا مما يدل على أننا وإخواننا المسلمين نعيش في سلام في المغرب”.
وكان للعاهل المغربي الكثير من المبادرات الرامية إلى إعادة الاعتبار للمكون اليهودي، من بينها ترميم الكنائس اليهودية كـ”صلاة الفاسيين” عام 2013.
وفي سنة 2010، قام الملك بإطلاق عملية ترميم المقابر اليهودية، أي ما يقارب 167 مقبرة. كما أن الدستور المغربي الجديد لسنة 2011، اعترف بالديانة اليهودية كمكون للهوية المغربية وهو قرار وصف بالفريد من نوعه لكونه يوفر مناخا استثنائيا للتعايش بين الديانتين اليهودية والإسلام المالكي.
وتوجد بالمغرب، شخصيات يهودية مؤثرة وبارزة، داخل المغرب وخارجه، من بينها اندري ازولاي، ينحدر من مدينة الصويرة، كما يشغل عدة مناصب، رئاسته لمؤسسة “أنا ليد” وعضويته في لجنة الحكماء لمبادرة تحالف الحضارات.
وشمعون ليفي، الذي ولد في مدينة فاس انخرط كام من اهم المدافعين عن استقلال المغرب، وبعد الاستقلال كان استاذا جامعيا و اشتغل في مجال الصحافة، وكان أبرز المناضلين في صفوف حزب المقدم والاستراكية وكانبا عاما لمؤسسة النراث اليهودي المغربي إلى أن وافته المنية سنة 2011.
ومن أهم الشخصيات اليهودية المغربية، أيضا، المناضل اليساري، ابرهام السرفاتي، من مدينة الدار البيضاء، مؤسس منظمة “إلى الأمام” عرف بمواقفه المعارضة الني قادته إلى السجن في سبعينات القرن الماضي بتهمة تهديد أمن الدولة.
ومن مدينة مكناس السياسي البارز، سيرج بيرديغو، الذي يشغل منصب السغير المتجول للملك محمد السادس. ويشغل أيضا أمينا عاما لمجلس الطائفة اليهودية بالمغرب والعالم.
وقال الأستاذ الجامعي المتخصص في تحليل الخطاب: “لابد أن نحترم ونقدر مواقف شخصيات مغربية يهودية كانت ومازالت متشبثة بالمبادئ المؤسسة لوجود هذا البلد وعلى رأسها رفض الانتماء للمشروع الصهيوني أو المساهمة في جرائمه..منهم الأديب والمؤرخ والمناضل السياسي والمدني، وفي مقابل ذلك هناك من فضل الانتماء في أحضان الحركة الصهيونية مشكلا وقودها بل وقيادتها في مستويات متعددة عسكرية واقتصادية وسياسية وساهم في اغتصاب حق شعب في أرضه ووجوده، لذلك وبالمعايير الحقوقية والنماذج الدولية ليس هناك من سيرضى يجعل أصحاب ذلك جزءا ممن ينتمون إلى الوطن”.
من جهته قال الأستاذ الجامعي، ادريس الكنبوري، لصحيفة “”: “هناك تعايش كبير بين اليهود والمسلمين في المغرب يعود إلى قرون عدة، والمعروف أنه بعد سقوط غرناطة في القرن الخامس عشر للميلاد وطرد الموريسكيين واليهود جاء هؤلاء إلى المغرب واستقروا، وقد استقبلهم المغرب شعبيا ورسميا فاندمج اليهود بين المغاربة بشكل طبيعي، خصوصا وأنهم لم يروا هناك أي سياسة للمغرب من أجل إكراههم على اعتناق الإسلام، كما فعلت معهم إسبانيا حين أكرهتهم على اعتناق الكاثوليكية”.
وأضاف الكنبوري،” من مظاهر التعايش واللاندماج، أن هناك يهودا كثيرين تبوأوا مناصب في الدولة المغربية قديما وحديثا، كما أنهم يحتفلون بالأعياد الوطنية بالبلاد، ويبايعون الملك باعتباره أميرا للمؤمنين، لأنه بالنسبة إليهم يضمن لهم حرية ممارسة طقوسهم الدينية، ولا يزال اليهود المغاربة يذكرون بفخر موقف محمد الخامس الذي رفض تسليمهم إلى حكومة فيشي اليمينية في فرنسا عام 1945 من أجل تسلميهم إلى ألمانيا النازية”.