أكون عربيًّا أصيلاً، إن صَدقتْ روايةُ تحدُّر عائلتي من حوران، جنوب سوريا، موطن الغساسنة، وقد كان هؤلاء من أولى قبائل العرب التي اعتنقت المسيحيّة.
أكون آراميًّا سريانيًّا، إن ثَبُتَ نزوحُ أجدادي قديمًا من الشام ورياضها إلى لبنان وبقاعه، حين وفدَ مسيحيّون كثيرون، على مرّ التاريخ، من باطن سوريا إلى سواحلها. ليس الموارنة فقط مَن نزحوا من هناك، بل أيضًا ملكيّون روم.
أكون مَلَكيًّا روميًّا لا غشّ فيه، إن كانت جذوري ضاربةً في أنطاكية، أحدِ معاقل الحضارة الهيلّينيّة في العالم القديم، وثالثِ أكبر مُدنِ الإمبراطوريّة الرومانيّة بعد روما والإسكندريّة.
أكون كنعانيًّا فينيقيًّا، إن تأكّد صمودُ أجدادي عبر التاريخ في بلاد كنعان، في جبال لبنان وساحله الذي يجاور “بحر الفينيقيّين”، البحر المتوسّط اليوم.
لا يمكن الركون إلى اسم عائلتي لأتتبَّع جذوري، كما هو الحال مع بعض العائلات العريقة التي يُعرَف منبعُها لمجرّد ذكر اسمها، لأنّ “الجاويش” إنّما كان لقبًا أو رتبة عسكريّة في الجيش العثمانيّ تعادلُ اليوم رتبة “الرقيب” أو “المعاون”. لذلك هناك “جاويشيّون” كُثر في تركيّا وسوريا ومصر وغيرها من البلدان التي حطّ رحال بني عثمان فيها.
جذوري على الأرجح هي هذه كلّها. أنا عربيّ اللغة، ساميّ الانتماء، كنعانيّ الهوى، لبنانيّ المولد، إنطاكيّ الثقافة، روميّ الطقس. “هويّةٌ بانتماءاتٍ عديدة”، إذا أردتُ أن أستعير من المفكّر أمين معلوف واحدًا من أجمل تعابيره في كتابه “الهويّات القاتلة”. لذلك لا أدّعي النقاء العرقيّ، وأتهكّم عادةً على من يدّعيه. النقاء العرقيّ بات نادرًا، لكثرة ما تخالطت الشعوب وتمازجت. في لبنان، أكثر ما نجد أصحابَ العيون الزرقاء في بلدة نائية مثل دير الأحمر في سهل البقاع، وفي بلدة شاهقة مثل بشرّي على سفوح جبل المكمل أعلى جبال الشرق الأوسط. إلى هناك وصلَ الفرنجة مع عيونهم الزرقاء!
جذوري هذه كلّها. أفتخر بأنّني عربيّ اللسان. والمفارقة أنّي أتقنتُ “لغةَ المسلمين” هذه لا بفضل المدرسة فحسب، بل خصوصًا بفضل الصلوات التي نتلوها في ديرنا يوميًّا، وقد ترجمها مَن سَبَقنا من الرهبان، من اليونانيّة إلى العربيّة، وسكبها في لغةٍ بليغةٍ أخّاذة. عندما أصلّي، كثيرًا ما أؤخَذ بروعة التعابير المستعمَلة التي تسافر بي في رحلةٍ نحو فيافي القلب وترفعني إلى مقام اللاّهوت السامي. يسوع، عرفتُه وعشقتُه في العربيّة، في “لغة القرآن” كما يُقال.
كانت كنيستي الروميّة من أولى الكنائس التي عَرّبت صلواتها وطقوسَها، وذلك قبل انقسامها إلى فرعَين كاثوليكيّ وأرثوذكسيّ في القرن الثامن عشر. لا بل يُقال إنّ اللغة العربيّة كانت منذ البدء واحدةً من اللغات الثلاث المعتمدة في صلوات المسيحيّين الإنطاكيّين، خصوصًا عند قبائل العرب المتنصّرين في جنوب سوريا، إلى جانب السريانيّة في الريف واليونانيّة في المدن الساحليّة. لم تسيطر اللغةُ اليونانيّة على طقوسِنا إلاّ في مرحلةٍ متأخّرة، في القرنَين التاسع والعاشر، مع هيمنة القسطنطينيّة سياسيًّا ودينيًّا على بلاد المشرق. لم تُعرِّب كنيستي صلواتها فحسب، بل أصرّت على أن تتلوَها في لغة الضادّ لمّا أخذَ أغلب مؤمنيها لا يتكلّمون سوى العربيّة. لم يكن الأمرُ على هذا النحو في باقي الكنائس. قال لي مرّةً كاهنٌ سريانيّ أرثوذكسيّ: “في كنيستنا، السريانيّة هي اللغة الأمّ ولغة التخاطب مع الربّ في صلواتنا، حتّى لو صعبَ حاليًّا على شعبنا أن يفهم ما يصلّي. صحيح أنّنا ترجمنا نصوصنا إلى العربيّة، لكنّنا كتبناها بالخطّ السريانيّ، أي الكرشونيّ، لأنّنا نرفض أن يوضع على مذابحنا كتابٌ يحوي أبجديّة عربيّة”.
عندما أتيتُ بلجيكا، خادمَ رعيّةِ الروم الكاثوليك فيها، هالني ما لمستُ من جهلٍ عند الأوروبيّين عندما كنتُ أُخبرهم بأنّ لغة الصلاة عندنا هي العربيّة: “كيف تكونون عَربًا وغير مُسلمين في آنٍ معًا؟”. في الأمر جهلٌ يُبكي ويُضحك في الوقت نفسه. أتذكّر مرّةً عندما قدّمتُ نفسي أمام رَجلٍ إيطاليّ في روما بقولي: “أنا كاهن من لبنان”، سألني فورًا ما إن سمع اسم لبنان: “هل أنت مسلم؟”، مع أنّي كنتُ أمامه بِزيّي الكهنوتيّ الأسود الذي يعرفه أهلُ روما جيّدًا لكثرة ما يرون من الكهنة في شوارعهم.
لا الأوروبيّون وحدهم جهّال، بل بعضُ العرب أيضًا. وهنا الطامة الكبرى. استقبلتُ مرّةً في كنيستي مجموعةً من الطلاّب البلجيكيّين الذين ودّوا أن يتعرّفوا على مختلف دُورِ العبادة في بروكسيل. وكان من بينهم طلاّب من أصل مغربيّ. أذكر أنّ الصدمة عند هؤلاء كانت أكبر ممّا كانت عند أترابهم ذوي الأصل البلجيكيّ الصرف، لمّا أخذتُ أُنشد أمامهم ترانيم في اللغة العربيّة. أَيُعقل أن يرنّم أحدٌ أمامهم ترانيم تُسبّحُ يسوع بلغةٍ يَعدّون أنفسَهم حرّاسَها الأشاوس في “الغرب الكافر”؟ أليس في بلادنا العربيّة أيضًا مَن يجهلون حتّى الآن أنّ بينهم مسيحيّين عربًا، ليسوا من بقايا الفرنجة والاستعمار البائد؟
لم تجتحني يومًا حاجةٌ إلى إثبات هويّتي كمسيحيّ عربيّ أمام أيّ أحدٍ من المشكّكين، لا جهلاً منّي بالتاريخ، بل ليقيني بأنّ إثبات ما هو بديهيّ مضيعةٌ للوقت والطاقة. هل يخطر ببال ابنِ مكّة مثلاً أن يضطرَّ يومًا إلى أن يبرهن أنّ محمّدًا نبيّ الإسلام كان واحدًا منهم؟ من يجهل أنّنا أهلُ الدار و”أمّ الصبيّ” وأبوه وعمّه وخاله… فهذه مشكلتُه لا مشكلتي.
منحتني جذوري أن أُحبَّ بالفطرة جميعَ مَن هم فوق الأرض، ليس إلاّ لأنّها تتمدّدُ عميقًا تحت الأرض. والأرضُ للربّ، المسكونةُ والساكنون فيها.